رأيصحيفة البعث

ما يتعدى الاقتصاد والمساحة الجغرافية

مع استكمال تحرير ما تبقى من جيوب إرهابية في بعض أطراف العاصمة، ومواصلة تطهير منطقة القلمون الشرقي بعد إخراج المسلحين من مدنها وقراها، وبعد رفع العلم العربي السوري يوم أمس في سماء الرستن وتلبيسة وإعادة الأمن والاستقرار إلى 65 مدينة وبلدة وقرية من ريفي حمص الشمالي وحماة الجنوبي بعد إرغام التنظيمات الإرهابية على تسليم أسلحتها الثقيلة والمتوسطة والخروج منها، يمكن القول إن الدماء بدأت تتدفق في شرايين الاقتصاد السوري المقطعة، وأن حركة الخدمات والسلع بين جنوب سورية وشمالها الغربي بدأت مسار العودة إلى دورتها الطبيعية – بالتأكيد مع بعض القصورات هنا وهناك، وحتى استكمال تحرير كامل الأراضي السورية من سيطرة العصابات الإرهابية.

ورغم أن هذه المساحة الجغرافية شكلت – على امتداد السنوات القليلة الماضية – ما اصطلح على تسميته في الأدبيات السياسية الأمريكية، خاصة، اسم “سورية المفيدة”، في محاولة لإشاعة افتراضات تقسيمية والإيحاء بأنه يمكن التعايش مع أكثر من سورية داخل سورية الحديثة، أو كنوع من اجتهادات أولية ومحاولات جس نبض في إطار المساعي الرامية لفرض تصورات مسبقة ومحددة على أي عملية سياسية مستقبلية، إلا أن عودة هذا الامتداد الجغرافي لا يمكن أن تشكل إلا مرحلة أولى، مهمة وضرورية، لإعادة توحيد كافة المناطق السورية تحت سلطة الدولة، ودمجها من جديد في كيان الجمهورية العربية السورية، هذا إن اعتبرنا أنها كانت خارجة عن سلطة الدولة، وليست – ببساطة متناهية – قرى وبلدات ومناطق اختطفت تحت تهديد السلاح، واتخذت – ولو مؤقتاً – وضعية الرهينة بانتظار توفر الشروط الميدانية للبدء بتنفيذ المخطط التقسيمي الذي وضع المحافظون الجدد الأمريكيون، ومعهم الوهابيون الصهاينة والعثمانيون الأردوغانيون، مرتسماته انطلاقاً من حسابات توسعية لا تخدم إلا تكريس الاحتلال الإسرائيلي كحقيقة قائمة على الأرض، وليس عليها أن تكون محل مراجعة أو مساءلة من وجهة نظر المؤسسة الأمريكية الحاكمة – على تعاقب إداراتها، ولا تعمل إلا على خدمة التوسعية الأردوغانية بطموحاتها الإيديولوجية الإخوانية في سورية، وعلى امتداد المساحة التاريخية للسلطنة الآفلة، ولا تفيد ثالثاً إلا في المزيد من تأبيد سلطة العائلات الخليجية الحاكمة التي اتبعت في سورية استراتيجيات تدميرية ومتوحشة قائمة على الإلحاق والضم من خلال توظيف عشرات الآلاف من المرتزقة التكفيريين لقلب نظام الحكم بالإرهاب المسلّح على أمل تحويل سورية إلى بحرين ثانية تكون واجهة أكثر اتساعاً وسطوة للنفوذ المالي والإيديولوجي السعودي – في المشرق العربي هذه المرة – من لبنان الذي استتبعته الحريرية السياسية مطيّة ذليلة خدمة للسياسات العدائية والمتقلبة للعائلة السعودية الحاكمة، والذي لا يستطيع، لمحدودية موارده ومصادر قوته، ولشبه عزلته الجغرافية، أداء المهام المتزايدة الأعباء لمملكة نفطية مشبعة بروح النقمة والكراهية والاحتقار المرضي للآخرين بعدما فشلت في مشروع بناء دولة حديثة، وتواجه مأزق موارد آخذة في التبدد والتآكل وسط تحديات إقليمية متزايدة الخطورة كانت المساهم الأكبر في مفاقمتها بفعل سياساتها الفاشلة القائمة على الاستمرار بتمويل حروب الوكالة إلى ما لا نهاية.

تتعدى أهمية استعادة المنطقة الوسطى إلى حضن سورية الأم أبعادها الاقتصادية لتدخل في بؤرة الحسابات الاستراتيجية المعقدة والمتشابكة. صحيح أن سورية تغلق بذلك واحدة من حلقات النمو الأساسية، وتسترجع مساحات زراعية وطرق مواصلات ومعامل وسدود وكتل سكانية كبيرة (هي، وقبل كل شيء، مواطنون عائدون إلى حضن وطنهم بعدما تحرروا من الحصار المفروض عليهم بقوة السلاح)، ولكن الصحيح أيضاً أن مهمة اليوم تتطلب استعادة وحدة كامل التراب السوري من الجنوب إلى الشمال، ومن الشرق إلى الغرب، لاعتبارات تمس سلامة وحصانة الشخصية الوطنية السورية، ووحدة الشعب السوري، وقوة هوية سورية الأم، وهي مهمة لا يمكن، أولاً، التنازل عنها تحت أي ظرف، ولا يمكن السماح لأي كان بالتدخل فيها، أو إدعاء الحق بالمشاركة في صياغتها أو التفاوض بشأنها، بالأصالة أو بالوكالة، حتى ولو كان ضامناً لتنفيذ بنود أستانا حول مناطق خفض التوتر؛ كما لا يمكن التنازل عنها، ثانياً، في سياق العملية التاريخية الراهنة لتحرير المشرق العربي من كل أشكال السيطرة الأجنبية، خاصة وهي المهمة التي ينبغي أن تكون على جدول أعمال جيش، وشعب دفع ثمن مناقبيته وأخلاقياته العالية، ولم يعد بالإمكان تجاوز دوره على مسرح السياسة الإقليمية.

سوف تعود كل الأراضي السورية إلى كنف الدولة السورية، وتحت سلطتها الواحدة، ولن تكون مقبولة أية طروحات، معلنة أو مكتومة، حول المركزية السياسية. لقد “انتهت أوهام التقسيم الاستعمارية” ولكننا أمام مشروع بناء سورية الأشد قوة ومنعة وحضورا.

بسام هاشم