ثقافةصحيفة البعث

عزاءات الفلسفة.. طريق آخر لفهم لحياة

الفلسفة ليست رفاهية فكرية كما يعتقد الكثيرون، بل هي طريق للحياة تساعد في تقديم حلول فكرية للإنسان تكون تارة لفهم الحياة، وتارة تكون عزاءات لمشاكلنا ومصاعبنا، بل وربما تتلمس أحياناً أنفاقنا الداخلية المظلمة لتنير النور فيها، وهذا ما أراد الكاتب آلان دو بوتون من كتابه “عزاءات الفلسفة” أن يضيئه للناس، فمن خلال صفحات هذا الكتاب وتجارب وقصص عدد من الفلاسفة  تحاول الفلسفة أن تجد طريقها لتكون مساعداً في حل المصاعب بأسلوب أنيق وممتع، تناولت العزاءات مختلف جوانب الحياة ابتداءً من مخالفة الآراء السائدة، افتقار المال، الإحباط، العجز، انكسارات الحب وانتهاءً بالمصاعب.

في مخالفة الآراء السائدة

كان سقراط هو رمز مخالفة الرأي السائد في هذا الفصل بكل قوة، فلسفته التي استنكرها حكام أثينا وقرروا قتله لأن فلسفته برأيهم تفسد شأن أثينا، فقد كان يحمل من خلالها معنى قوة سقراط وثبات إيمانه بفلسفته، ورفضه لإتباع الآراء السائدة بدون اقتناع منه. يشرح المؤلف أن خنوعنا أمام الرأي السائد وخوفنا من الرفض سببه العجز عن تقبل فكرة أن نكون الوحيدين في العالم الذين أدركوا الحقيقة، ويؤكد أننا لو تجرأنا على كسر هذا الخوف والعجز، لتجرأنا دائماً على قول الفكرة السليمة مهما كان الموقف السائد منها.

لا يساعدنا الفيلسوف على الاقتناع أن الآخرين قد يكونوا على خطأ فحسب بل يقدم طريقة بسيطة تمكننا من تمييز ما هو صحيح بأنفسنا من خلال طرح بعض الأسئلة هل هي فعلًا سليمة تلك الأفكار وتستحق هذا الثبات عليها؟، يكمل المؤلف معتمدا على المنهج السقراطي في تقدير الأمور، ويقول “المقولة صحيحة هي تلك التي لا يمكن تفنيدها على نحو منطقي وتكون المقولة صحيحة حين لا تكون مخالفتها ممكنة ولو تم ذلك، لابد وأن تكون خاطئة ولنا الحق في التشكيك فيها، بصرف النظر عن عدد معتنقيها أو اتسـاع مداها”.

الافتقار للمال

ما ميز فيلسوف هذا الفصل أبيقور، تأكيده في فلسفته على أهمية اللذة الحسية “اللذة هي منطلق وغاية الحياة السعيدة” وبهدف تخمين الدرجة التي ستكون عليها سعادتنا المحتملة يجب تطبيق منهج التساؤل التالي على جميع الرغبات: ما الذي  سيحدث لي لو تحقق ما كنت أرغب به؟ وما الذي سيحدث لو لم يتحقق؟ ويقول: لتحقيق السعادة يكفي أن يتواجد لذة، ويرى أن أغلب الأشياء التي توفر هذه اللذة لا تحتاج للمال ثم يختمها بقوله: إن السعادة معتمدة على بعض الأمور السيكولوجية المعقدة، ولكنها مستقلة نسبياً عن الأمور المادية.

الإحباط

قتل الفيلسوف الروماني سينيكا لنفسه هو بداية الطريق للعزاء في هذا الفصل، فقد قُتل بأمر من الإمبراطور نيرون، الذي تربى وتعلم من صغره على يد سينيكا، بعد أن انحرفت تصرفات نيرون وتحولت إلى أقصى مراحل الدناءة والعدوانية، أرغم معلمه أخيراً على الانتحار بنفس الطريقة اللي أُرغم عليها سقراط ، ما جعل سينيكا برأي الكاتب يصمد أمام المآسي والاتهامات التي لاقاها في حياته ثم نهايته المحزنة يقول سينيكا: “أدين بحياتي للفلسفة وهذا أقل التزاماتي حيالها”. فلسفته تؤمن بأن ما يدفعنا إلى الغضب الذي يعتبر نمطاً من الجنون والتألم والإحباط من الحياة هو التفاؤل المبالغ فيه تجاه الحياة والأشياء. تتكرر فكرة واحدة في أعمال سينيكا وهي من الأفضل تحمل الإحباطات التي هيأنا أنفسنا لها، ومحاولة فهم معظم تلك التي فاجأتنا من دون أن نتمكن من استيعابها، يجب أن توفق الفلسفة بيننا وبين الأبعاد الفعلية للواقع، وبذلك سنتجنب على الأقل درع الإحباط المكون من العواطف الخبيثة المرافقة.

العجز

مونتين كان سيد العزاء هنا، كان قد وضع خطوط نمط جديد من الفلسفة، فهو يقر بمدى بعدنا عن الكائنات الهادئة العاقلة التي كان معظم الفلاسفة القدماء يعتبروننا نماذجها الأسمى، ويرى أنه لو تقبلنا زلاتنا وتوقفنا عن إدعاء وجود تفوق لا نملكه سنكتشف أننا لا نزال ملائمين في نهاية المطاف بطريقتنا الفريدة نصف الحمقاء- نصف الحكيمة. كان مونتين يراقب كيف كانت أفكار الناس بشأن الطبيعي تتغير بحدة، من مقاطعة إلى أخرى وذكر المؤلف اعتقادات وأفكار كثيرة في مجتمعات مختلفة كيف أن أهلها يقدسونها، بينما في جزء آخر من العالم يعاقبون على الفكرة نفسها وربما يقتلون من يعتنقها.

ثم لا ينسى مونتين أن يعزينا فيما لو اتهمنا أحد بـ لا طبيعيتنا فكان عزاؤه الصداقة فيقول “الصديق هو شخص طيب بما يكفي لاعتبار أن معظم ما فينا طبيعي أكثر مما يعتبره الناس”.

انكسارات القلب

فيما يخص مآسي الحب شوبنهاورهو الأفضل بين الفلاسفة إذ يرى أن أحد الألغاز العويصة في الحب تتمثل بسؤال: “لم استقرت رغبتنا بقوة من بين جميع المرشحين الآخرين على هذا الكائن؟ لم عمدنا إلى تفضيله فوق الجميع؟”. ويرى أننا لسنا أحراراً أثناء الوقوع في الحب مع الجميع، واحدة من أفكاره عن الحب، التي يحاول فيها أن يعزينا عندما قال: “السعادة لم تكن من الخطة”

وحتى يعزز هذي المقولة، تبرز فكرته المعروفة: بأن الحب والانجذاب والرغبة في الزواج هي في الحقيقة ودون أن نشعر تنشأ فينا من أجل رغبتنا في الحفاظ على الجنس البشري. إن الحسنة الوحيدة في عزاء شوبنهاور هي إيمانه بأن في الفن بكل أشكاله عزاء لا منته لانكساراتنا وعزلتنا وإحساسنا بالوحدة، وأن بإمكانه بجانب الفلسفة، أن يجعل من ألمنا معرفة تعزينا.

المصاعب

بحسب رأي نيتشه ثمة بعض العناصر التي يحتاج البشر إليها على نحو طبيعي من أجل حياة منجزة، وقد أضاف تفصيلاً مهماً أنه من المستحيل تحصيلها دون عيش فترة بائسة جداً لبعض الوقت، فأكثر المشاريع البشرية تحققاً تبدو غير قابلة للانفصال عن درجة ما من العذاب، ومصادر مسراتنا العظمى تبدو قريبة على نحو غريب من مصادر آلامنا العظمى. ويرى نيتشه أنه ما من أحد قادر على إنتاج عمل فني عظيم من دون تجربة أو تحقيق مكانة دنيوية مباشرة أو أن يكون عاشقاً عظيماً من المحاولة الأولى، ويؤكد لنا أن غاياتنا تتطلب منا أن نتألم، ففي الحد الفاصل بين الإخفاق الأولي والنجاح اللاحق، في الهوة بين المكانة التي نتمنى تحقيقها يوماً ما ومكانتنا حاليا، لابد من الألم والقلق والحسد والذل.

علا أحمد