دراساتصحيفة البعث

بولتون القصة غير المروية وانسحاب ترامب من الاتفاق النووي

ترجمة وإعداد علي اليوسف

تقوم السياسة “الأمريكية- الإسرائيلية” منذ فترة ليست بالبعيدة بخطوات تشير إلى الاستعدادات للحرب ضد إيران، ففي كل مرة -عام 2007، وفي عام 2008، ومرة ​​أخرى في عام 2011، وآخرها 2018- كانت تلك التحركات في الواقع ليست إلا استعراضاً يهدف إلى ممارسة الضغط على الحكومة الإيرانية. لكن عندما اختار دونالد ترامب جون بولتون كمستشار للأمن القومي فإن تلك الاستعراضات سوف تخلق احتمالاً حقيقياً جداً للحرب مع إيران. بولتون ليس من صقور المحافظين الجدد العاديين، لقد كان مهووساً لسنوات بالحرب ضد إيران، ودعا كثيراً إلى قصف إيران في ظهوره المعتاد على قناة “فوكس نيوز”، دون أدنى مؤشر على أنه يفهم عواقب مثل هذه السياسة.

لقد تآمر بولتون خلال فترة عمله كصانع سياسات لإدارة بوش في إيران من عام 2002 حتى عام 2004 لإرساء الظروف السياسية اللازمة للقيام بعمل عسكري. لقد أثر بولتون على ترامب لتمزيق الاتفاق النووي الإيراني، وأقنعه بالالتزام بلغة محدّدة يتعهد فيها بالانسحاب من خطة العمل المشتركة إذا لم يوافق الكونغرس وحلفاء أمريكا الأوروبيون على مطالب بإجراء تغييرات كبيرة كان من الواضح أنها محسوبة لضمان انهيار الصفقة.

إن دفاع بولتون البارز عن الحرب مع إيران معروف جيداً، لكن ما هو غير معروف على الإطلاق هو أنه عندما كان وزيراً للخارجية لضبط التسلح والأمن الدولي، قام بإعداد إستراتيجية معقّدة ومجردة تهدف إلى خلق مبرر لهجوم أمريكي على إيران. سعى بولتون لإدانة الجمهورية الإسلامية في محكمة الرأي العام الدولي من خلال وجود برنامج سري للأسلحة النووية باستخدام مزيج من الضغوط الدبلوماسية والدعاية والأدلة الملفقة.

على الرغم من حقيقة أن بولتون كان من الناحية الفنية تحت إشراف وزير الخارجية كولن باول، إلا أن رئيسه الفعلي في وضع وتنفيذ تلك الإستراتيجية كان نائب الرئيس ديك تشيني. كان بولتون أيضاً نقطة الاتصال الرئيسية للإدارة مع الحكومة “الإسرائيلية”، ومع دعم تشيني، تمكن من خرق قواعد وزارة الخارجية العادية عن طريق القيام بسلسلة من الرحلات إلى “إسرائيل” في عامي 2003 و 2004 دون الحصول على تصريح من مكتب وزارة الخارجية لشؤون الشرق الأدنى.

وهكذا، في اللحظة التي كان باول يقول فيها إن سياسة الإدارة الأمريكية ليست مهاجمة إيران، كان بولتون يعمل مع “الإسرائيليين” على إرساء الأساس لمثل هذه الحرب. خلال زيارة في شباط 2003، أكد بولتون للمسؤولين “الإسرائيليين” في اجتماعات خاصة أنه ليس لديه شك في أن الولايات المتحدة ستهاجم العراق، وأنه بعد إسقاط صدام، فإنه سيتعامل مع إيران أيضاً، فضلاً عن سورية.

وخلال رحلات متعددة إلى “إسرائيل”، عقد بولتون لقاءات غير معلنة، بما في ذلك مع رئيس “الموساد مائير داغان” من دون الاتصال المعتاد مع وزير الخارجية والمكاتب الأخرى ذات الصلة. انطلاقاً من هذا التقرير حول زيارة بولتون المبكرة، تناولت تلك الاجتماعات بوضوح إستراتيجية مشتركة حول كيفية توفير الظروف السياسية لضربة أمريكية في نهاية المطاف ضد إيران.

لعب الموساد دوراً عدوانياً جداً

في صيف عام 2003، طبقاً للصحفيين دوغلاس فرانتز، وكاترين كولينز في كتابهما “الجهادي النووي”، أنشأ “مائير داغان” مكتباً جديداً للموساد مكلفاً بإحاطة الصحافة العالمية بالجهود الإيرانية المزعومة لتحقيق قدرة إنتاج أسلحة نووية. تضمنت مسؤوليات الوحدة الجديدة توزيع الوثائق من داخل إيران وكذلك من الخارج  في إستراتيجية مشتركة بين الولايات المتحدة و”إسرائيل”، كما يحدّد في مذكراته الخاصة 2007، هو ضمان أن تكون القضية النووية الإيرانية انتقلت من الوكالة الدولية للطاقة الذرية ومجلس الأمن في الأمم المتحدة. فقد كان مصمّماً على منع المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية حينها محمد البرادعي من التوصل إلى اتفاق مع إيران يجعل من الأصعب على إدارة بوش تشويه صورة طهران على أنها تشكل تهديداً للأسلحة النووية.

بدأ بولتون اتهام إيران بامتلاك برنامج سري للأسلحة النووية في منتصف عام 2003، لكنه واجه مقاومة ليس فقط من البرادعي ودول عدم الانحياز، وإنما من بريطانيا وفرنسا وألمانيا كذلك. واستندت إستراتيجية بولتون على الادعاء بأن إيران كانت أخفت برنامجها النووي العسكري من الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وفي أوائل عام 2004، توصل إلى خدعة دعائية درامية: أرسل مجموعة من صور الأقمار الصناعية إلى الوكالة الدولية للطاقة الذرية توضح المواقع العسكرية الإيرانية في بارشين التي ادّعى أنها كانت تستخدم في الاختبارات لمحاكاة الأسلحة النووية. وطالب بولتون بأن تطلب الوكالة الدولية للطاقة الذرية الوصول لتفتيش تلك المواقع، وسرّب مطلبه إلى وكالة “أسوشيتد برس” في أيلول 2004.

في الواقع، لم تظهر صور الأقمار الصناعية أكثر من مخابئ ومبانٍ لاختبار الأسلحة التقليدية. وكان من الواضح أن آمال الجيش الإيراني الموافقة على أي تفتيش للوكالة الدولية للطاقة الذرية على أساس هذه المزاعم الزائفة، وبالتالي لعب في موضوعه الدعاية “تعنت” إيران في رفض الإجابة عن أسئلة حول برنامجها النووي. ولكن في عام 2005، سمحت إيران للمفتشين بالدخول إلى تلك المواقع، بل وسمحت لهم باختيار عدة مواقع أخرى للتفتيش عليها. لم يجد المفتشون أي دليل على وجود أي أنشطة ذات صلة بالنشاط النووي، إلا أن الإستراتيجية “الأمريكية- الإسرائيلية” كانت ستؤثر في وقت لاحق على الفوز بالجائزة الكبرى عندما ظهرت في خريف 2004 مجموعة كبيرة من الوثائق التي يفترض أنها من مصدر سريّ داخل برنامج الأسلحة النووية الإيراني، وجدت على الكمبيوتر المحمول لأحد المشاركين، وشملت الرسومات الفنية لسلسلة من الجهود لإعادة تصميم صاروخ إيران شهاب-3 لحمل ما بدا أنه سلاح نووي. ولكن القصة الكاملة لما يسمّى بـ”مستندات الكمبيوتر المحمول” كانت تلفيق. في عام 2013، كشف مسؤول ألماني كبير سابق عن القصة الحقيقية لهذا الكاتب: كانت الوثائق قد أُعطيت للمخابرات الألمانية من قبل “مجاهدين خلق” -الجماعة المسلحة المعادية لإيران التي كان معروفاً جيداً أنها قد استخدمت من قبل الموساد “لغسل” معلومات لم يرغب “الإسرائيليون” في إسنادها لأنفسهم- وعلاوة على ذلك، فإن الرسومات التي تظهر إعادة التصميم والتي تمّ الاستشهاد بها كدليل على برنامج الأسلحة النووية، قد تمّ تنفيذها بشكل واضح من قبل شخص لم يكن يعلم أن إيران قد تخلّت بالفعل عن مخروط الأنف من شهاب -3 لتصميم مختلف تماماً. كان من الواضح أن الموساد كان يعمل على تلك الوثائق في عامي 2003 و2004 عندما كان بولتون يجتمع مع “مائير داغان”. وسواء أكان بولتون يعلم أن “الإسرائيليين” يعدون وثائق مزيفة أم لا، فإن الإسهام “الإسرائيلي” في إرساء الأساس السياسي لهجوم أمريكي على إيران كان هو الرجل الذي يمثل النقطة.

يكشف بولتون في مذكراته أن إستراتيجية تشيني الموجهة أخذت إشاراتها من “الإسرائيليين”، الذين أخبروا بولتون أن الإيرانيين كانوا يقتربون من “نقطة اللاعودة”. وكان ذلك هو النقطة التي كتب عنها بولتون، والتي “لم نستطع التوقف عندها”. لقد قام تشيني وبولتون على أساس إستراتيجيتهما الحربية على أساس أن الجيش الأمريكي سيكون قادراً على تعزيز السيطرة على العراق بسرعة. عوضاً عن ذلك، تعثر الاحتلال الأمريكي. واقترح تشيني الاستفادة من الحدث الضخم في العراق والذي يمكن إلقاء اللوم فيه على إيران لمهاجمة قاعدة الحرس الثوري الإيراني في إيران في صيف عام 2007. لكن الخطر من أن تقوم المقاومة في العراق بالرد على الجنود الأمريكيين هو أمر أساسي كانت وزارة الدفاع الأمريكية، ورئيس هيئة الأركان المشتركة يدركون جيداً أن إيران لديها القدرة على الرد مباشرة ضد القوات الأمريكية في المنطقة، بما في ذلك ضد السفن الحربية في مضيق هرمز. لم يكن لديهم صبر لأفكار تشيني الوحشية حول المزيد من الحروب. إن حذر البنتاغون لم يتغيّر، غير أن عقليْن في البيت الأبيض لم ينجحا، من الواقع يمكن أن يتحدى ذلك التحذير ويدفع الولايات المتحدة إلى الاقتراب من حرب خطيرة مع إيران.

وهناك العديد من الدلالات على أن قرار الرئيس الأمريكي بالانسحاب من الاتفاق النووي يُنذر بإشعال المنطقة، لأنه يشكل إعلان حرب على إيران، بهدف تغيير واستبدال النظام الحاكم الحالي، بالطريقة ذاتها التي جرى فيها تغيير أنظمة الحكم في العراق وليبيا وغراندا، بحجة امتلاك أسلحة الدمار الشامل، وهذا ما أشار إليه المساعد السابق لوزير الخارجية الأمريكي لشؤون الأمن الدولي فرانك ويزنر الذي كان نشطاً في المفاوضات النووية بالقول: أنا لم أشهد طوال حياتي هكذا تضاد مع رئيس لبلدي، وأن الانسحاب من الاتفاق هو خطأ له أبعاد إستراتيجية، وكان من الممكن أن يكون الاتفاق أرضية ملائمة للعلاقات الأمريكية- الإيرانية لحل الوضع المتأزم في الشرق الأوسط.

لكن سقط الاتفاق النووي ودخل العالم برمته مرحلة ما بعد الاتفاق، حتى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي توقع في واشنطن انسحاب ترامب من الاتفاق، بات يعتبر أنه سواء جرى أو لم يجرِ هذا الانسحاب فيجب البحث عن اتفاق جديد موسع يشمل الجوانب الملتبسة الأخرى: مصير البرنامج عام 2025. وفيما تبدو جولة وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو الأخيرة في المنطقة تحضر لما بعد الاتفاق النووي مع إيران، تراقب طهران التحولات الدولية الكبرى، وهي لم تكترث من الكشف الاستعراضي الأخير لرئيس وزراء الكيان الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، لكنها تراقب المزاج الدولي والإقليمي المتغيّر.

المشكلة الحقيقية بين إيران وأميركا، لا يختزلها النووي، لأنها أبعد من ذلك بكثير، ولأنه بعد مجيء دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، ركز على مسائل أساسية، هي تدعيم قوة “إسرائيل”، بما يجعلها بعيدة عن أي تهديد إقليمي، وتكريس سيطرتها على القدس، من خلال نقل السفارة الأميركية إليها، ودعم حلفاء أميركا في المنطقة، وإضعاف إيران، التي كانت قد تنفست الصعداء اقتصادياً بعد الاتفاق، وإن لم تجن ثماره كاملة.

أيقن ترامب أن تغيير خارطة المنطقة أمر غير ممكن، لكنه يعتقد أن تغيير موازين القوى فيها ممكن جداً، وأن تحييد إيران صار هو الهدف الذي يجب أن يتحقق من خلال محاصرتها اقتصادياً، أو تخليها عن مناطق نفوذها لمصلحة أميركا، وهو المطلب السعودي، الذي تفاهمت الرياض بشأنه مع واشنطن، مقابل تحقيق مصالح اقتصادية أميركية كبيرة، ولاسيما بعد القمة الإسلامية الأميركية في الرياض.