الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

طوق الحمامة (2)

د. نضال الصالح

بين نور والمدرج الروماني الذي يتوسط مدينتها درعا، والذي كانت أسرتها تسكن قريباً منه، وأمضت طفولتها وبعضاً من صباها فيه، علاقة آسرة لم يكن أحد يدرك كنهها، أو سرّها، وربّما أسرارها، حتى نور نفسها. كانت، ما إن تغادر مدرستها، وبدلاً من أن تمضي إلى البيت فوراً، تهرع إلى المدرّج، ثمّ تتلمّس بعض حجارته، وأحياناً تقبّلها بشغف كما يفعل عاشق برّح الشوق به، وأحياناً ثالثة تمرّر أنفها فوق بعض تلك الحجارة، وتأخذ نفساً عميقاً حتى تنفذ رائحتها إلى أعماق رئتيها، ثمّ تودّع المكان، ثم تمضي إلى البيت، وعندما كانت أمّها تؤنبها لتأخرها في العودة إلى البيت كانت تبتكر، كلّ مرّة، وببراعة لا توصف، ما لا يمكن لأحد غير تصديقه واليقين به.

ذات وجْدٍ بالمدرّج الذي يعود تاريخ بنائه إلى القرن الثاني قبل الميلاد حطت كفّ مباغتة على كتف نور، فالتفتت الطفلة التي لم تكن تجاوزت العاشرة آنذاك إلى صاحب اليد، ثمّ لم تكد عيناها تحيطان بالفتى الواقف أمامها، حتى تلعثم لسانها بالكلام، وقبل أن تمسك بكلمة: “قاسم؟!” فتدفعها خارجاً، عاجلها الفتى بوضع راحة يمينه على جبينها متحسساً حرارته وقد قدّرَ أنّ شقيقته التي تصغره بست سنوات فقدت عقلها بعد أن رآها تتلمّس بعض الحجارة، وتقبّلها، وتتشمم رائحتها، ثم بالقول: “نور”، ولم تدعه يكمل وكانت قراءة الدهشة في عينيه، بل سارعت إلى الإمساك براحة يمينه، ووضعتها على سطح الحجر الأقرب إليهما، ثمّ دعته إلى أن يتلمّسه كما كانت تفعل، ثمّ يحاول لثمه وملء رئتيه بالرائحة المنبعثة منه، فلم يكن من قاسم سوى الرضا، ثمّ لم يكن منه سوى المضيّ إلى آخر، فثالث، فرابع، حتى أحسّ بأنّ شقيقته في مطلق عافيتها العقلية، وأنّ ثمّة ما يبوح الحجر به على الرغم من صممه، بل على الرغم من كونه جماداً.

سنوات ونور وقاسم، وبين وقت وآخر، كانا يمضيان إلى المدرّج، وعلى الرغم من أن نور كانت حصلت على الثانوية، والتحقت بجامعة دمشق، وعلى الرغم من أن قاسم كان تزوج وصارت لديه أسرة، فإنهما لم يتوقفا عن الذهاب إليه، وكانا، ما إن يبلغا أوّله، وتبدأ سورة الشغف جهرها بالحياة، حتى كان كلّ منهما ينادي الآخر أن تعال إلى هذا الحجر، أو إلى ذاك، فثمة ما ينطق به غير ما ينطق به سواه من الحجارة، وثمّة ما يحكيه غير ما يحكي به سواه، وله ملمسه المختلف، ورائحته المختلفة، حتى كان ذلك اليوم من سبع سنوات خلت، بل من ذلك اليوم الذي وجدت الأسرة نفسها فيه مكرهة على مغادرة الحيّ إلى الطرف الآخر من المدينة، اليوم الذي لم يكن لأحد أن يتوقّعه، بل أن يتخيّل، مجرّد تخيّل، أن يكون، فيكون ذلك الدم، والخطف، والخراب، وبين ذلك كلّه راية بألوان مختلفة عن علم البلاد، وبنجوم مختلفة عن نجمتيه لوناً وعدداً، ثمّ درب الآلام الذي كان على الأسرة أن تمشي فيه حتى تتوزع بين غير مكان، ومن تلك الأمكنة العاصمة دمشق، ومن العاصمة مركز الإيواء الذي اختارته خالة نور، والذي كان…. (يتبع).