ثقافةصحيفة البعث

نزيه أبو عفش في المركز الوطني للفنون البصرية: الشعرية الكثيفة معلقة على الحائط

تتسع مساحة التعبير أمام النفس الشغوفة فيه وبصناعة الحياة الموازية أملا منها بأن جدار السؤال العالي الذي يفرضه الوجود، لا يمكن مواجهته إلا بسؤال مبدع تلقيه الفنون على البشرية لتنجو من آثامها وتحمي صيغة الجمال فيها وعلى هذه الأرض حيث يتشابكون بين الحيرة واليقين، ربما كان الشعر من أبلغ أدوات الوهم التي تجعل من السماء أمرا قريبا وقابلا للتحليق في الخيال، والتخفيف من عبء المادة وصلابة اللغة وقساوة العيش وحتمية العدم، هنا يمكن القول بأن أس الإبداع ذلك الإحساس بالألم والغربة، مما يدفع الكاتب نحو مقولته النهائية بما يتقن من لغة وكتابة، والفنان بما يعرف من قيم اللون والموسيقى والخط والحركة، لتكون هذه العناصر توليفة المساحة الممكنة للعيش والخوض في مشاغلها ودلالاتها وخلق القيمة التي لا بد أن تكون حساس مقياس التوازن بين فسحة الكون وازدحام الأسئلة.

الشاعر نزيه أبو عفش يدخل ميدان تعبير آخر غير ذي قبل حين عرفناه شاعرا من أهم الملامح الثقافية العربية، اليوم يعرض للجمهور لوحاته  في المركز الوطني للفنون البصرية ويحتفى به فنانا تشكيليا سوريا يكتب عنه أصدقاؤه وتسبقه سمعته كشاعر تحقيقا لحضوره التشكيلي البليغ، مجموعة من اللوحات المنفذة على الكرتون بتقنيات الفحم والألوان الزيتية تعود لسنوات مضت، يقرؤها البعض موتيفا لأزمة تعيشها البلاد وما مس الوطن من ألم، لكن القول الحقيقي هو اللوحة المنزهة عن هذا الإسقاط عن الحرب والخوف، فالشاعر الفنان أكثر تحسسا وخوفا من سوداوية ما يعرفه ببصيرة العارف ومن قبل وقوع الفاجعة منذرا بها ومحذرا، فقد كتب عن الوحشية والوحدة وعن الحب والإله والبيت والمرأة والعزلة في منطقة تقع بين السواد والعتمة راسما بارعا في  لغة اللوحة، وكاتبا حساسا في لغة التشوف والخلق، هذه الحساسية الوفيرة الموزعة على ضفتي الكتابة والرسم يقدمها مستفزا فينا مواجع النفس الإنسانية بمعاناة من خبرها، هذا الفنان الشاعر يمارس هوايته بملاحظة الألم ومحاصرة متلقيه في الزوايا، حيث لا مفر ولا خلاص إلا بالفن والمزيد من لغة السماء الرؤوفة بالبسطاء والحزانى والمهمشين.

أحسب أن هذا التقديم ربما يليق  بقامة الشاعر الذي احتفى بالناس وكان كريما باللوحة، ومن المعروف في الحياة الثقافية أن هناك عدداً من الأدباء قدموا لنا نتاجهم  التشكيلي استطاع البعض منهم أن يصل إلى مواطن أبعد مما يصل إليه أي رسام تقليدي، لأن المسألة متعلقة بالسبر والغوص والاكتشاف، ومنهم من توكأ على سمعته الأدبية، فسبقت نجوميته النتيجة وإن كان قد حصد لطف الحضور في آن، لكنه لم يعلق في الذاكرة كفنان تشكيلي تشغله قضايا اللوحة والتقنية والفكرة المجسدة في البصر، وعرف المشهد الثقافي السوري من قبل الشاعر حسين حمزة وأدونيس وآخرين ممن تعاطوا مع اللوحة ومشاغل التشكيل، مثلما تعاطى الفنانون قضايا الأدب، وحسبي أن المعلم فاتح المدرس يمثل العلامة الفارقة في هذا المشهد، وقد وصل تأثيره إلى دائرة الأدباء من مجايليه ومنهم نزيه أبو عفش وأدونيس وحسين حمزة أيضا، حتى أنه تميز بنتاجه الأدبي ومقولاته الفكرية على أهل القول والكتابة لما يملكه من بصيرة وثقافة حادة.

في لوحة أبو عفش الفنان نلاحظ ولعه بالتعبير واهتمامه بفلسفة أسلوب الحفر الغرافيك، وإن قدم بعض أعمال التصوير الزيتي على الكرتون التي لا ترتقي للغة المصور المقنع، لكن بقية الأعمال المنفذة بالأبيض والأسود باستخدام مادة الفحم وتناوله لأكثر من مشهد بدا موفقا في التكوين ويمتلك من الحساسية العالية في الـتأثير في السطح، كما جعل من الموضوع الإنساني موضوعه الأثير فضلا على بعض التكوينات من الصخور المرسومة بلغة المؤلف الحاذق الذي يمتلك من أدوات التلميح والإسقاط ما يكفي لجعل الفكرة والموضوع تتقدم على التكنيك، فقد رسم المأساة الإنسانية بتلك العيون الذاهلة والأجساد المتعبة التي يتوسطها شبح الموت والفقد جاعلا من الألم وليمة لا بد منها، مشهد الضحية في اللوحات الكلاسيكية كالعشاء الأخير وولائم غويا ورمبرانت البصرية.

جاءت طريقة العرض أنيقة، فالتأطير وتوزيع اللوحات وإخراجها جاء بلغة التعاطي مع لوحة الحفر، تأكيدا من لياقة القائمين على المعرض وثقة هذا الفنان بمفاهيم الحفر وتأثره أيضا من حيث بلاغة التعبير في النزوع التراجيدي في المشهد، إلا أن سطوة الشاعر بقيت مهيمنة وحاضرة قبل الفنان التشكيلي، مما أضاف شيئا في هذا المعرض الأيقونة، الذي يشي بأن هناك ما يدعو للاحتفاء بنزيه أبو عفش الشاعر والفنان السوري والإنسان أولا وبكامل بلاغة الضمير.

أكسم طلاع