دراساتصحيفة البعث

خمسون عاماً على أحداث أيار 68 في فرنسا

 

مازن المغربي
كاتب وباحث من سورية

شهدت فرنسا خلال شهري أيار وحزيران من عام 1968 سلسلة من الاضطرابات الاجتماعية تم قمعها بشدة من قبل رجال الأمن، ولم تتمكن حكومة الجنرال ديغول من استعادة السيطرة على الوضع إلا من خلال تقديم مجموعة من الإصلاحات تضمنت رفع أجور العمال، وتعديل نظام المؤسسات التعليمية الفرنسية بمختلف مستوياتها.
اندلعت شرارة الاضطرابات بين صفوف طلاب العاصمة الفرنسية المحبطين من نظام الحكم القائم الذي لم يفسح مجالاً حقيقياً لتغيير الأوضاع الاجتماعية بما يخدم مصالح الفئات الأكثر هشاشة، حيث ساد بين أوساط الشباب جو من اليأس من إمكانية تغيير الأوضاع عن طريق الانتخابات التي اعتبروها فخاً للأغبياء، وكانت لديهم مبررات حقيقية لتبني هذا التوجه، فمع قيام الجمهورية الرابعة، في أعقاب تحرير فرنسا من الاحتلال من قبل قوات التحالف الدولي الذي قادته الولايات المتحدة، برز الحزب الشيوعي الفرنسي بوصفه القوة السياسية الأهم بعد أن تمكن من تعزيز صفوفه من خلال عمليات مقاومة الاحتلال، وجرت الانتخابات عام 1945 في ظل متغيرين رئيسيين: أولهما منح المرأة حق التصويت، وثانيهما تبني نظام النسبية، وكانت النتيجة تحول الحزب الشيوعي إلى القوة السياسية الأولى، وكذلك امتلاك ممثلي اليسار الماركسي الأغلبية المطلقة في الجمعية الوطنية.
لكن سرعان ما تبين للناس حدود النظام الديمقراطي البرلماني، حيث قامت الحكومة التي انبثقت عن الانتخابات بتنفيذ مجموعة من الإصلاحات تضمنت عمليات تأميم وتبني مفهوم التخطيط، وإنشاء نظام الضمان الاجتماعي، الأمر الذي لم ينسجم مع توجهات الجنرال شارل ديغول، فتقدم باستقالته من منصب رئاسة الجمهورية في شهر كانون الثاني من عام 1946.
وجاءت انتخابات عام 1947 لتعكس المزاج الشعبي، حيث تم انتخاب رئيس جمهورية جديد من الاشتراكيين هو فنسان أوريول الذي شغل المنصب حتى عام 1954، كما تم تكليف اشتراكي آخر بمنصب رئاسة الحكومة هو بول راماديه.
وضمن هذا الجو تم تشكيل القوة الثالثة بوصفها تعبيراً عن رفض سياسة الحزب الشيوعي، وكذلك رفض طموحات الجنرال ديغول الراغب بشدة في لعب دور في فرنسا التي تأثرت بتداعيات دخول العالم مرحلة الحرب الباردة، وهكذا عاشت فرنسا حالة من التشرذم السياسي وجدت تعبيراً عنها في انتخاب رينيه كوتي رئيساً للبلاد عام 1953 بعد ثلاث عشرة جولة انتخابية في الجمعية العمومية، واستمر الوضع الداخلي في التوتر، وبدأت الأوضاع في المستعمرات تضغط على الحكومة الفرنسية إثر الهزيمة المذلة في معركة ديان بيان فو، وبلغت الأزمة ذروتها عام 1958 نتيجة للحرب في الجزائر، وبعد محاولة قادة القوات الفرنسية في الجزائر تنظيم انقلاب بهدف قطع الطريق على فكرة تغيير الأوضاع في الجزائر، الأمر الذي دفع الرئيس الفرنسي لاستدعاء الجنرال شارل ديغول وتكليفه برئاسة الحكومة بما يتعارض مع توجهات الجمعية الوطنية التي امتلك فيها اليسار الأغلبية، لكن رئيس الدولة هدد بالاستقالة الفورية، وإدخال البلاد في حالة فراغ، وضمن هذه الظروف تمت على عجل صياغة دستور الجمهورية الخامسة، ومن ثم جرى انتخاب شارل ديغول رئيساً للجمهورية في الثامن من شباط 1959بهدف منع وقوع انقلاب عسكري، وفق ما صرح به بيير منديس فرانس رئيس الوزراء الأسبق، ونجح الجنرال في تكوين قاعدة سياسية وجماهيرية، وتمكن في عام 1965 من الفوز بولاية رئاسية ثانية ضد مرشّح الحزب الاشتراكي فرانسوا ميتران.
وطوال فترة حكمه ركز ديغول على أهمية حصول فرنسا على دور دولي مستقل عن النظام الدولي العالمي الذي تم إقراره في مؤتمر “يالطا” الذي لم يضم ممثلاً عن فرنسا، وضمن هذا السياق عاشت فرنسا حالة من الانقسام الداخلي بين رئيس من يمين الوسط، وجمعية وطنية احتل فيها اليسار موقع الثقل، حيث مثل نواب الحزب الشيوعي القوة الثانية في البرلمان مباشرة خلف نواب التجمع من أجل الجمهورية الذين كان بين صفوفهم تيار يساري قوي، وتمكن الشيوعيون من رفع حصتهم في المقاعد البرلمانية من 18.9% في انتخابات عام 1958 إلى 22.5% في انتخابات عام 1967.
ولكن ساد في أوساط الشباب والمثقفين جو من خيبة الأمل من أداء الأحزاب اليسارية التي رضيت بدور التعايش مع سلطة الجنرال، وبرزت أصوات تشكك بالقدرات الثورية للطبقة العاملة التي تبنى أبرز ممثليها سياسة النضال المطلبي، وتمكنوا من تحويل الاتحاد العام للشغل أكبر النقابات الفرنسية وقتها إلى أداة ضبط لتحركات الطبقة العاملة.
وانتشرت بين أوساط الطلاب والشباب مشاعر سخط ضد حرب فيتنام وضد نظام اجتماعي همش الشباب وأهمل مطالبهم، وعلى الرغم من شعبية الأفكار الاشتراكية، لكن فئة الشباب لم تجد ضالتها في التنظيمات اليسارية القائمة، الأمر الذي منح بعض المجموعات الصغيرة من الماويين ومن التروتسكيين فرصة لعب دور يتجاوز بكثير وزنها الحقيقي، لكن الدور الأكبر في إيجاد المناخ الفكري الذي مهد للاضطرابات تمثل في تأثير أفكار مدرسة فرانكفورت، وبشكل خاص أفكار هربرت ماركيوز مؤلف كتاب “الإنسان ذو البعد الواحد” الذي كتب: “إن قيام العبيد بانتخاب السادة بحرية لا يلغي السادة ولا العبيد”، وكان يوجه خطابه إلى الشباب بشكل خاص، حيث كتب: “عندما تخطئ السماوات يقوم الشباب بتصحيح ذلك، وقد جاءت الفرصة فينبغي ألا تضيع!!”.
كان ماركيوز مثل زملائه في مدرسة فرانكفورت يرفض الفكر الماركسي التقليدي، ويتحامل على الطبقة العاملة، ويحملها هي وأحزابها مسؤولية فشل محاولة التغيير الحقيقي لمجتمع الاستهلاك الرأسمالي الذي يؤطر الأفراد وفق مصالحهم، ويفرض عليهم حالة من الاستلاب تحولهم إلى مواطنين صالحين يصدقون ما تقوله الحكومة، ويتقيدون بتعليماتها، وينعمون بمزايا العيش في ظل نظام لا يمنحهم سوى الأوهام، الأمر الذي غير، من وجهة نظر ماركيوز، مفهوم كلمة الثورة التي لم يعد من مهامها أن تقوم بتعميق جذري للتيارات الموجودة فعلاً في المجتمع القائم، وأن تقوم بتكملة مسار هذه التيارات، ولكنها أصبحت نوعاً من الإيقاظ والشحذ والتعبئة لتلك الطاقات التي تبدو سلبية بشكل أو بآخر نتيجة لما تتعرّض له من الامتصاص والقهر الذي تمارسه عليها تلك القوى المشكّلة للتجربة الإنسانية، وخلص ماركيوز إلى أن الطبقة العاملة في الولايات المتحدة فقدت الروح الثورية حيث كتب:
“نصل الآن إلى مسألة الطبقة العاملة، أنا قلت وأكرر ما قلته اليوم بأن الطبقة العاملة الأمريكية ليست بالطبقة الثورية.. وقلت إنه في الوضع الحالي، وانطلاقاً من واقع أن الطبقة العاملة الأمريكية ليست ثورية، فإن الوعي السياسي، والوعي السياسي الراديكالي متركز ضمن مجموعات من أقليات غير مندمجة مثل الطلاب، ومثل السود والسمر، ومثل النساء، وما إلى ذلك”.
وجدت تلك الأفكار صدى واسعاً لدى المثقفين والطلاب في أوروبا، وبدا أن الهدوء الظاهري أخفى حالة من الغليان في انتظار فرصة ملائمة.
كانت الحياة تسير بشكلها المعتاد إلى أن اندلعت تحركات طلاب الجامعات في باريس في عمليات احتجاج ضد نظام التعليم وضد قلة فرص العمل بعد التخرج، وكانت بمثابة امتداد لأزمة عالمية بدأت في الولايات المتحدة عام 1964 احتجاجاً ضد حرب فيتنام، ثم انتقلت إلى أوروبا، لكنها اكتسبت في فرنسا أبعاداً استثنائية، خصوصاً بعد انضمام شرائح واسعة من العمال إلى حركة الإضرابات.
وجد الشباب في تلك الفترة صعوبة في التأقلم مع مجتمع تتحكم به العلاقات والقيم التقليدية، ويعتبر الاتحاد الوطني لطلاب فرنسا المعبر عن طموحات الشباب في تلك المرحلة، حيث تم تأسيس هذه المنظمة على قاعدة معارضة الحرب في الجزائر، في حين عانت منظمات الشباب الأخرى من أزمات حادة، كما كان حال اتحاد الطلاب الشيوعيين الذي عانى من سلسلة انقسامات، وعارض قيادة الحزب الشيوعي الذي استكان لقواعد اللعبة الانتخابية.
بدأت حركة الطلاب في جامعة نانت حيث أسس دانيال كون- بنديت حركة عملت على احتلال بعض أقسام الجامعة، الأمر الذي دفع السلطات إلى إغلاق الجامعة في الثاني من شهر أيار 1968، فانتقلت الاحتجاجات إلى مدينة باريس، وأدت فظاظة قوى الأمن إلى تعزيز التيارات الجذرية بين الطلاب، حيث تم توقيف خمسمئة من طلاب جامعة السوربون، الأمر الذي دفع جماهير واسعة من الطلاب للتعاطف مع الموقوفين، وتحولت الاحتجاجات في العاشر والحادي عشر من أيار إلى مواجهات عنيفة في الشوارع، وسرعان ما استجابت شرائح من العمال إلى الخطاب التحريضي وبادرت إلى احتلال المصانع، واتسعت حركة الإضرابات العمالية بشكل غير مسبوق، حيث بلغ عدد المضربين أكثر من سبعة ملايين عامل تحركوا بمعزل عن النقابات الكبرى التقليدية، وتوقفت الخدمات العامة وحركة النقل.
حملت الأزمة بوادر رياح تغيير، وكان هناك زخم جماهيري حقيقي، وسمع الناس بآراء جديدة تتعلق بالحريات الفردية، وبرفض الديمقراطية البرلمانية، ولعبة الانتخابات التي يتم التلاعب بنتائجها والالتفات عليها، لكن كان من الصعب على الجنرال ديغول الاستجابة للمطالب الجماهيرية فهو صاحب نظرة تقليدية محافظة.
وخرج الشارع عن السيطرة، وشلت الإضرابات البلاد نتيجة مشاركة ثلثي من يتلقون رواتب حكومية، وخاصة في الإضراب، واحتل الطلاب الجامعات، وصار مصير ديغول بين يدي الحزب الشيوعي الفرنسي والاتحاد العام للشغل الموالي له، ففي عام 1968 كان الحزب الشيوعي من أهم التشكيلات السياسية، وضم قرابة 350 ألف عضو، وهو حصد أكثر من خمس أصوات المقترعين في انتخابات عام 1967، في حين ضم الاتحاد العام للشغل قرابة مليونين وثلاثمئة ألف عامل، وكان أمينه العام جورج سيغي عضواً في المكتب السياسي للحزب الشيوعي، ويبدو أن قادة الحزب لم يرضوا عن موجة الاحتجاجات التي لم ير فيها قادة الحزب سوى محاولة لتشويه مكانة اليسار من قبل مجموعات ماركسية غير تقليدية، وبالمقابل لم ينظر الاتحاد العام للشغل الذي عانى في تلك الفترة من أزمة تتعلق بتراجع عدد المنضمين إليه، بارتياح إلى حركة الإضرابات، في حين أن الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، وهي نقابة منافسة، أيدت حركة الطلاب واحتلال المصانع، ورفعت شعار الإدارة الذاتية، وبدا أن مصالح الاتحاد العام للشغل والحزب الشيوعي تطابقت مع مصلحة الجنرال الراغب في المحافظة على النظام القائم، وعلى هذا الأساس تم عقد مفاوضات بين النقابيين وممثلين عن السلطة القائمة، وضم وفد الحكومة كلاً من جورج بومبيدو رئيس الوزراء الذي صار لاحقاً رئيس جمهورية، وكذلك جاك شيراك عمدة باريس المزمن الذي صار بدوره رئيساً للجمهورية، وكذلك ادوارد بالادور، ونيكولا ساركوزي!!.
أدرك الجنرال ديغول أن الأزمة بلغت حدوداً خطيرة فبادر في الرابع والعشرين من أيار إلى الإعلان عن تنظيم استفتاء حول عمليات تحديث تشمل الجامعة والقضايا الاقتصادية والاجتماعية، واقترح ممثلو الحكومة رفع الرواتب بنسبة 10%، وزيادة الحد الأدنى للأجور بنسبة 35%، وسعوا إلى التعاون مع النقابات الكبرى لحصر المطالب في الجانب المعيشي، لكنهم جوبهوا برفض فئات واسعة من المحتجين، الأمر الذي أدخل البلاد في أزمة سياسية حقيقية رد عليها الجنرال ديغول بقرار حل الجمعية الوطنية، وتنظيم انتخابات تشريعية مبكرة، وحظي الأمر بتأييد الأحزاب الكبرى، وتمكن اليمين الفرنسي من استعادة توازنه، واستغل حالة الهلع التي انتشرت بين الناس نتيجة الشائعات حول وجود مؤامرة شيوعية للاستيلاء على السلطة، وجاءت نتيجة الانتخابات التي نظمت في نهاية شهر حزيران لتمنح اليمين أغلبية ساحقة في الجمعية الوطنية.
لكن مشاعر السخط لم تختف، حيث عبر معظم الفرنسيين عن رفضهم لمشروع الجنرال ديغول لإصلاح النظام، وصوت أكثر من 52% من المقترعين في الاستفتاء الذي نظم في السابع والعشرين من نيسان 1969 ضد مشروع ديغول الذي قدم استقالته من رئاسة الجمهورية، واليوم تعيش فرنسا حالة من التوترات الاجتماعية، وموجة من الإضرابات، وحركة احتجاج ضد سياسة الرئيس ماكرون، ولا يبدو أن لدى الرئيس الفرنسي نية للاستجابة لمطالب شعبه، وهو الطامح لاستعادة أمجاد الحقبة الاستعمارية من خلال عسكرة سياسة بلاده الخارجية، والتدخل في شؤون البلدان الأخرى.