دراساتصحيفة البعث

التجارة جعلت العالم غنياً لكن سياسات ترامب تجعله أكثر فقراً

ترجمة: عناية ناصر

عن موقع ذا كونسيرفتف 10/6/2018

تتبادل الدول السلع والخدمات بعضها مع بعض لأن هذا التبادل مفيد بشكل عام. من السهل أن نفهم أن أيسلندا لا ينبغي أن تزرع برتقالاً لها، بسبب مناخها، بدلاً من ذلك، يمكن لأيسلندا شراء البرتقال من إسبانيا، التي يمكنها أن تزرعه بتكلفة زهيدة أكثر، ولكن من الممكن لها أن تبيع الأسماك الوفيرة في مياهها.

وهذا هو السبب في أن الانفجار في التجارة الحرة منذ أن عقدت أول صفقة ثنائية بين بريطانيا وفرنسا في منتصف القرن التاسع عشر ولّد ثروة ورخاء لم يسبق لهما مثيل للغالبية العظمى من سكان العالم، واستمر الأمر في مئات من الاتفاقات التجارية، لكن في وقت لاحق أنشأت الولايات المتحدة والعديد من البلدان الأخرى نظام التجارة الدولية القائم على القواعد بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أن الولايات المتحدة التي لعبت دوراً أساسياً في تعزيز هذا النظام، تحاول الآن جاهدة تقويضه. ففي قمة مجموعة السبع الأخيرة في كيبيك، وعلى سبيل المثال، عارضت إدارة ترامب حتى الإشارة إلى “النظام الدولي القائم على القواعد” في البيان الرسمي، ورفض الرئيس في النهاية التوقيع عليه.

السياسة التجارية -لأنها عالمية وتتطلع بطبيعتها إلى الأمام- تتطلب ثلاث سمات مترابطة كي تكون ناجحة، فهي تحتاج إلى تقليل عدم اليقين، وتسهيل اتخاذ القرار على المدى الطويل، وأن تكون قانونية وموثوقة، لكن السياسات التجارية الأخيرة لدونالد ترامب أخفقت في الاختبارات الثلاثة.

وبالعودة إلى الوراء، وقّعت بريطانيا وفرنسا أول اتفاقية للتجارة بعد الثورة الصناعية الأولى، والتي سُمّيت معاهدة كوبدن- شوفالييه، في 23 كانون الثاني 1860، واتفق فيها البلدان إما على خفض أو إزالة حواجز الاستيراد ومنح الدولة الأكثر تفضيلاً، مما يعني أن أي تنازلات تجارية تقدم لدولة أخرى سينطبق تلقائياً عليها أيضاً.

في غضون 15 عاماً فقط، وقع العديد من الدول على 56 معاهدة ثنائية أخرى. هكذا بدأت الموجة الأولى للعولمة، التي استمرت من عام 1870 حتى عام 1914 الذي كان بداية حربين عالميتين مدمرتين.

انبثق من هذا الدمار نظام تجاري دولي قائم على قواعد محدّدة، عُرف باسم الاتفاق العام على التعريفات الجمركية والتجارة، أو اتفاقية “الغات” التي دخلت حيز التنفيذ عام 1948، وكان هدفها القضاء على الحمائية التجارية الضارة التي قلّلت بشكل حاد من التجارة العالمية خلال الكساد الكبير، وذلك بهدف تعافي الاقتصاد العالمي بسرعة بعد الكثير من الدمار.

توّجت المفاوضات التي استمرت نحو نصف قرن لتحسين الاتفاق بإنشاء منظمة التجارة العالمية عام 1995.

يستند حجر الأساس للقواعد الحديثة على نظام التجارة الدولية، والتي تضم الآن 164 دولة، تدير معاً أكثر من 96 في المئة من تجارة العالم.

لقد عمل هذا النظام بشكل جيد للغاية منذ فترة طويلة، لأن منظمة التجارة العالمية وأكبر مؤيديها وأعضائها، مثل الولايات المتحدة، جعلوا من ثلاث سمات متداخلة جزءاً لا يتجزأ من سياساتهم التجارية:

1- تقليل عدم اليقين من خلال خلق سياسات تجارية يمكن التنبؤ بها.

2-خلق بيئة تسهل صنع القرار، خاصةً على المدى الطويل، من قبل المستهلكين والمنتجين.

3- وضع تعليمات موثوقة وقانونية مفهومة بوضوح من قبل الحلفاء ومن هم غير كذلك.

على الرغم من أن الولايات المتحدة لعبت دوراً بارزاً في إنشاء كلّ من “الغات” ومنظمة التجارة العالمية، إلا أن سياسة ترامب التجارية لم تتبع هذه الإرشادات، ويبدو ترامب، وكأنه أكثر اهتماماً بإلحاق الدمار والخراب بنظام التجارة العالمي القائم أكثر من اهتمامه بضمان استمراريته، فكثيراً ما كان يلمح -وحتى وقت قريب– إلى أنه قد يسحب الولايات المتحدة من منظمة التجارة العالمية.

يبدو أن ترامب يعتقد أنه من خلال إصدار التهديدات الجمركية، وعدم القدرة على التنبؤ بها، واعتبار الدول الأجنبية -حتى الحلفاء- شركات منافسة، يمكن له الحصول على تنازلات من الشركاء التجاريين. لكن، وعلى النقيض من ذلك، فإن مثل هذه التكتيكات، وكما ثبت، قد تأتي بنتائج عكسية.

خلقت سياسات ترامب، ربما أكثر من أي شيء آخر، الكثير من عدم اليقين بين شركاء الولايات المتحدة التجاريين.

وتعدّ تعريفات الصلب والألومنيوم التي فرضها مثالاً على ذلك، ففي آذار الماضي، أعلنت الإدارة عن تعريفات شاملة على واردات المعادن تصل إلى 25 في المائة لمعاقبة الدول -خاصة الصين- على دعم صناعاتها الخاصة وإغراق منتجاتها السواحل الأمريكية.

وبعد أن اشتكى الحلفاء الرئيسيون، بما فيها كندا والاتحاد الأوروبي والمكسيك، منحت الإدارة بعض الدول إعفاءات مؤقتة من الرسوم الجمركية، ولكن بعد بضعة أشهر، وفي 31 أيار غيّرت مسارها، وبدأت تفرض التعريفات على هذه الدول أيضاً، تاركة إياها في حالة اضطراب. وبعد أسبوع واحد فقط، وفي قمة مجموعة السبع كان ترامب يهدّد بوقف كل التجارة مع نظرائه وخلال دقيقة واحدة.

مثال آخر حديث على تعزيز عدم اليقين هو حالة غريبة لشركة “زد تي إي” لصناعة الهواتف الصينية. في آذار 2017، فرضت وزارة التجارة في إدارة ترامب غرامة قدرها 1.19 مليار دولار أمريكي على “زد تي إي” لانتهاكها قانون العقوبات الأمريكي وبيع التكنولوجيا التي تحتوي على مكونات أمريكية إلى إيران وكوريا الديمقراطية. وفي نيسان الماضي، قالت الوكالة إن شركة “زد تي إي” ما زالت  تنتهك القانون الأمريكي ومنعت الشركات الأمريكية -والأهم من ذلك شركة كوالكوم لصناعة الرقائق الإلكترونية- من بيع أي شيء لشركة “زد تي إي”، ما أدى إلى الإعلان عن إغلاقها بعد أقل من شهر!.

لكن في غضون أيام، بدا ترامب وكأنه يغيّر رأيه، فقد قال في تغريدة له: “إنه والرئيس الصيني شي جين بينغ يعملان على جعل “زد تي إي” تعود إلى العمل بسرعة. لقد تمّ فقدان الكثير من الوظائف في الصين، ولذلك تم إصدار تعليمات إلى وزارة التجارة لرفع العقوبات عنها”.

مثل هذه التغييرات المفاجئة تجعل من الصعب على الشركاء التجاريين التنبؤ بما ستفعله الحكومة الأمريكية، مما يؤدي إلى حالة عدم يقين كبيرة.

لنتأمل في الوضع الذي يواجهه رجل أعمال أمريكي ينتج معدات صناعية عالية المستوى يتمّ تصديرها إلى العديد من البلدان حول العالم، ويتم تصنيع معدات شركته باستخدام الألومنيوم والصلب ، ونتيجة لتعريفات ترامب الجديدة، سيواجه هذا الرجل صعوبة في التنبؤ بما ستكون عليه تكلفة المعادن في المستقبل، وهذا سيكون له آثار واضحة على تسعير منتجاته. إضافة إلى ذلك، إذا دخلت الولايات المتحدة في حرب تجارية، فلن يعرف رجل الأعمال هذا أيضاً ما إذا كان بعض المشترين الأجانب أو جميعهم سيبحثون عن بدائل مماثلة ولكنها أرخص في أماكن أخرى.

مثل هذا التفكير لا يؤثر فقط على رجال الأعمال ولكن أيضاً على الشركات. بعيداً عن الافتراضات، تخشى الشركات بالفعل هذا الأمر، وقد اشتكت كلّ من فورد وتويوتا في أمريكا الشمالية من التأثيرات السلبية للتعريفات الجمركية التي فرضها ترامب على التكاليف والقدرة على اتخاذ قرارات استثمارية سليمة.

كما أثارت رسوم ترامب للصلب والألومنيوم الجمركية أسئلة حول شرعيتها ومصداقيتها، فقد أكدت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن هذه التعريفات غير قانونية. وبناءً على ذلك قدم الاتحاد الأوروبي دعوى قضائية ضد الولايات المتحدة في منظمة التجارة العالمية، ومن غير الواضح ما إذا كانت ذريعة الأمن القومي الأمريكي ستؤثر على قضاة منظمة التجارة العالمية.

تساءل رئيس الوزراء الكندي جوستين ترودو، الذي كان هدفاً لعاصفة تغريدات ترامب بعد قمة مجموعة السبع: كيف يمكن أن تشكل كندا تهديداً للأمن القومي للولايات المتحدة؟ حتى أن وزير الدفاع جيمس ماتيس أشار إلى عدم إمكانية تصديق ذريعة الأمن لفرض التعريفات.

توضح هذه الحالة القاتمة أنه حتى بعض أصدقاء أمريكا العريقين يعتقدون أن تصرفات إدارة ترامب الأخيرة غير قانونية، وبشكل أعمّ، فإن هؤلاء الحلفاء أنفسهم لا يستطيعون فهم معنى المبادرات التجارية للإدارة ولا هدفها.

تعدّ الولايات المتحدة أغنى وأقوى دولة في العالم، ويرجع ذلك جزئياً إلى تبنيها لنظام دولي قائم على قواعد تتوافق مع النظام التجاري العالمي الحالي القائم على الاتفاقيات.

وبدلاً من البناء على هذا النجاح، أدت الإجراءات التجارية للرئيس ترامب حتى الآن إلى خلق حالة من الفوضى، الأمر الذي لم يؤد إلى أي نجاح يُذكر، سواء من حيث انتزاع الامتيازات من الشركاء التجاريين أو إنشاء الاتفاقات “العظيمة” التي يشير إليها في كتابه “فن الصفقة”، حتى في الصفقات التفاوضية أو التجارة أو غير ذلك، يبدو أن ترامب يحب أن يكسر جميع القواعد، لكنه يحتاج أن يتعلم: ليس هذا ما جعل أمريكا عظيمة!!.