دراساتصحيفة البعث

التباين الهيكلي في الاتحاد الأوروبي: المهماز الصلب للتفكك

 

علي اليوسف

تحمل هيكلة الاتحاد الأوروبي تبايناً جوهرياً بين أعضائه، إذ إن هذا الكيان مقسم ذاتياً إلى مجموعة شمال أوروبا، وتضم دولاً متطورة صناعياً، تقابلها مجموعة دول جنوب أوروبا، وهي دول مثقلة بالديون، ويكبل اقتصادها المتعثر قراراتها السيادية، ومجموعة دول أوروبا الشرقية المنضمة لاحقاً للاتحاد، وهي دول إلى حد ما متخلفة اقتصادياً، حسب معايير التنمية الاقتصادية، ومؤشرات النمو التي يعتمدها الاتحاد، وعلاوة على هذا التباين الهيكلي، تتعدد الفروقات على مستوى اللغة والدين والتاريخ، ولهذا جاء تصويت المواطن البريطاني للخروج من هذا الكيان الذي- أي المواطن- هو أكثر الأوروبيين تمسكاً بتاريخه، وتباهياً بتاريخ “مملكته العظمى”.
في واقع الحال، الاتحاد الأوروبي ليس نتاجاً لواقع جغرافي وتاريخي، بل هو أقرب إلى نتاج نخبوي سعى زعماء الدول الست: “فرنسا، ألمانيا، ايطاليا، هولندا، بلجيكا، لوكسمبورغ” المؤسسة له في بداية الخمسينيات لبنائه ككتلة سياسية واقتصادية تكون بمثابة رادع أخلاقي للنزاعات العسكرية فيما بينها من ناحية، وتكون نموذجاً لسلطة لامركزية تنافس الولايات المتحدة وروسيا من ناحية أخرى، علماً أن 30 % من الدول الأوروبية ليست أعضاء فيه، وأغلبها فقيرة بالمعايير الأوروبية نفسها.
إذاً ما جدوى المشروع الأوروبي بالنسبة لعدد كبير من مواطني الاتحاد بعد اندثار عملتهم الوطنية، ونشوء صعوبات اقتصادية واجتماعية لديهم على غرار ايطاليا واسبانيا واليونان والبرتغال، الخاصرة الضعيفة في الاتحاد، وهو خط يرجح أنه سيزداد بروزاً بالدعوة إلى الانفصال وبشكل خاص من قبل الأحزاب اليمينية؟.
أزمة اليورو قوية، وكينونة الاتحاد مهددة بوجوده، وهذا كلام صحيح في ظل المعطيات التي بدأت تظهر بعد الانسحاب الكبير للمملكة المتحدة، ومع تزايد الانتقادات بخصوص وجود وحدة سياسية حقيقية داخل الاتحاد في غياب سياسة خارجية واضحة، ما يعني بالضرورة أن الاتحاد الأوروبي يمر بأزمة وجود، وهذا يتطلب موقفاً ألمانياً سياسياً، لكونها الآن تعد القاطرة الأولى في الاتحاد بقوة صادراتها ودعمها لليورو “يورومارك”، ولكن إلى متى سيستمر الدعم الألماني لدول الاتحاد الضعيفة على حساب مصالح مواطنيها؟.
لم تأت هزيمة حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي الذي ترأسه أنجيلا ميركل من فراغ يوم 14 أيار 2017 بحصوله على 18% بعد أن كانت 23,3% عام 2013 أمام الحزب الديمقراطي الاجتماعي الحائز على 22,4%، وأمام حزب البديل من أجل ألمانيا المعادي للاجئين وللاتحاد، والحائز على 12,9%، بقدر ما تفهم على أنها عقاب من الشعب الألماني على سياسة الباب المفتوح أمام اللاجئين، وعلى تحمّل أعباء أوروبا المتعثرة.

عملية إنقاذية للاتحاد
لا شك في أن بحث فرنسا الجديدة بقيادة الرئيس الشاب ماكرون عن استعادة ريادتها داخل الاتحاد الأوروبي إلى جانب ألمانيا من أجل تعزيز التعاون وإعادة هيكلة الاتحاد الأوروبي ليس إلا ترجمة لعمق الأزمة الأوروبية من ناحية، ودلالة من ناحية أخرى على أهمية الدور الثنائي الذي تتطلع إليه القوتان الأوروبيتان لإنقاذ مركب الاتحاد، إذ من المتوقع أن يسعى هذا المحور الثنائي لوضع حد لأزمة “وجود” الاتحاد التي لا يمكن فصلها في أية حال عن بعد الهوية الأوروبية التي يتصارع داخلها تياران، واحد يحمل فكرة الذاتية أو الخصوصية الأوروبية، وثان يدعو لفكرة أوروبا الفدرالية، لأن القيم الأوروبية الجامعة التي تجاوزت صراع الهويات الإقليمية والقومية في فترات معينة ومحددة زمنياً في تاريخ القارة العجوز، لا تجد مبررات قوية لمساندتها من الناحيتين الثقافية والدينية للتدليل على أنها قيم بالفعل تتقاسمها الشعوب الأوروبية، حيث كانت التوافقات الأوروبية دائماً ملتفة بعباءة التحالفات العسكرية الظرفية لمواجهة الأعداء، وقد جاء أغلبها كردة فعل على الحروب والأطماع الامبريالية والجيوسياسية، ولم تتحد البلدان الأوروبية حصراً تحت راية أية امبراطورية، وبالتالي فالاتحاد الأوروبي يشكّل تحالفاً سياسياً استثنائياً ومنفصلاً عن تاريخ أوروبا، أسهمت الثورة الصناعية في بريطانيا والثورة السياسية في فرنسا في تشكيل ما يعتبره الساسة الأوروبيون أعمدة هوية مشتركة.
وحسب شهادات ايريك هوبزباوم (1917 -2012) هناك أمثلة لا تحصى عن حالات التفكك الأوروبي، وندرة الائتلافات تاريخياً، وتحديداً قبل خمسينيات القرن الماضي، وجميعها تنفي أي اتجاه وحدوي يؤسس موضوعياً لهوية أوروبية، وهذا ما يطرح اليوم عن غياب هوية أوروبية حقيقية في ظل عدم وجود وعاء حاضن لمكونات هوية مشتركة، ما يحول دون استمرارية أي مشروع وحدوي، وبالأخص أوقات الأزمات المستعرة التي يُفرض فيها انحياز للمصالح القومية/ القُطْرية على حساب الفدرالية، وبالتالي فإن فرضية التفكك واردة جدياً في حالة الاتحاد الأوروبي، إذا ما جرت استفتاءات مماثلة تكون نتائجها على شاكلة التصويت البريطاني.
يعوّل على نجاح الرهان الألماني الفرنسي في ترتيب البيت الأوروبي دون استشراء عدوى “البريكست”، وتستشف من قراءة خلال الفترة 1950-2005 مراوحة العلاقات الألمانية الفرنسية بين المد والجزر، حيث كان التفاهم في بداية الخمسينيات على وضع حد للعداء المتبادل عبر تأسيس مجموعة الحديد والصلب، لتتحول لاحقاً عام 1954 إلى الجماعة الاقتصادية الأوروبية، ثم إلى الاتحاد الأوروبي بشكله الحالي، مع ما تخلل تلك الفترة من تجاذب بخصوص مشروع مجموعة الدفاع الأوروبية عام 1954، والذي اشتركت فيه بريطانيا أيضاً، ولكنه باء بالفشل، بلغ التقارب الفرنسي الألماني أوجه بفضل شخصيتين هما: كونراد ادناور، وشارل ديغول، الأول كان هدفه الصلح الذي تؤطره علاقة تعاون قوية، والثاني كان يتطلع إلى تحرير أوروبا من أطماع وهيمنة الولايات المتحدة الأمريكية، فكان اتفاق الاليزيه الموقع في جانفي 1963، ليؤسس لعلاقة البلدين بمتانتها الحالية، وبشكل مباشر للوحدة الأوروبية.
لا شك في أن البلدين قادران على تمثيل دور إنقاذي بمستوى إمكاناتهما وإرادتهما المشتركة المعلنة، وكسلم أولويات، من المرجح أن يتجه التفكير إلى ترسيخ “الهوية” الأوروبية في أبعادها الاقتصادية والتجارية والدفاعية ومباشرة الإصلاحات، علاوة على ذلك تطرح اليوم إعادة هيكلة معايير معاهدة “ماستريخت” لعام 1993، المحددة لنسبة عجز الموازنة على الناتج القومي بألا يتجاوز أكثر من 3%، وألا يتجاوز الدين على الناتج القومي نسبة 60%. ومن المحتمل أن يكون هناك تفكير لإنشاء دفاع أوروبي مشترك، لم يتبلور رسمياً إلى اليوم على مستوى الاتحاد الأوروبي.
تتفق آراء حكومة كاميرون البريطانية السابقة والمؤسسات الاقتصادية العامة في بريطانيا مع طروحات صندوق النقد والبنك الدوليين، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، في القول بأن بريطانيا هي الخاسر الأكبر من البريكست، وأن خروجها ليس “هروباً من المبنى المحترق” كما صورته الثورة “الشعبوية”، وتقدر هذه المؤسسات حجم الخسارة المحتملة بـ 224 مليار جنيه استرليني، وخسارة مزايا اتفاقيات التجارة الحرة، وانكماش بنسبة 1,4% بحلول عام 2019، مع احتمال عودة الاستقرار بحلول عام 2030، فمن السيناريوهات الممكنة لما بعد البريكست تبني بريطانيا لنموذج النرويج في علاقته مع الاتحاد الأوروبي، وهي الفرضية المثلى للمشككين في الاتحاد الذين يرون أهمية تموقع بريطانيا كشريك للاتحاد دون العضوية، مع تمتعها بحق دخول السوق الموحدة، رغم عدم أحقيتها في التصويت على القواعد التي تحكم هذه السوق، وإمكانية استفادتها من برامج معينة يعدها الاتحاد، خصوصاً في مجال البحوث العلمية والتقنية.
وفي ظل هذه المرحلة التي يكتنفها التخوف من الارتدادات، والحيطة من القادة الأوروبيين، تبرز فرضية تتعلق بمصير الاتحاد نفسه في ظل عدم وضوح رؤيا في بروكسل بشأن التعاطي مع الخروج البريطاني، وتعالي دعوات التشكيك، والشكل الذي سيكون عليه الاتحاد دون بريطانيا، وتحدي الحفاظ على وحدة الكيان، والإصلاحات الممكنة لرأب الصدع.
لا شك في أن خروج بريطانيا يفقد الاتحاد أحد الأجنحة المحركة للسوق الموحدة، كما يفقد في المقابل بريطانيا الدعم الدبلوماسي الأوروبي، وهو أمر قد ينتج عنه انحياز بريطانيا إلى الولايات المتحدة الأمريكية التي لم يخف رئيسها الجديد ترامب سعادته بالانفصال كونه “حدثاً رائعاً” كما قال، وهو ما قد ينشأ عنه محور سياسي استراتيجي جديد مقابل المحور الأوروبي، في وقت يتنامى فيه محور النفوذ الروسي الصيني اقتصادياً واستراتيجياً في العالم.
واليوم يعاني الاتحاد الأوروبي من أزمة شك حول المصير القادم، فهو بين مطرقة الكلفة السياسية بالسير خلف النهج الأمريكي، وسندان كلفة اقتصادية باستمرار فرض العقوبات على روسيا، وتداعيات ذلك على الشركات الأوروبية، ولعل هذه المسألة إلى جانب القضايا الدولية الكبرى- الحرب على سورية، والصراع الفلسطيني “الإسرائيلي”، والملف النووي الإيراني، ومكافحة الإرهاب- ستشكّل محاور مهمة في العلاقات الأوروبية الأمريكية مستقبلاً، وفي إعادة رسم الخارطة الجيواستراتيجية في العالم، وهي قضايا عكست في الآونة الأخيرة تعارضاً في المصالح بشكل جوهري بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، وبشكل خاص ما يتعلق بطابع التدخل الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط.
وفي هذا السياق، أكد تقرير لجنة العلاقات الدولية بمجلس اللوردات البريطاني الصادر في 2 أيار 2017 التدخل الأمريكي في المنطقة العربية بـ “غير المتوقع والهدام”، ولا يبدو الاتحاد الأوروبي أقل قلقاً بالنظر إلى المواقف “العدائية” للرئيس ترامب، ونرجسيته، والخُيَلاء اللتين تلفان شخصيته، ولكن رغم الاختلافات الأخيرة في وجهات النظر البريطانية الأمريكية حيال السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط كما أوردها التقرير البريطاني، فإنه من المستبعد الإقرار بفتور العلاقات الثنائية للبلدين بعد البريكست، بسبب “استثنائية” العلاقات التاريخية بين بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية والمستمرة إلى اليوم، بالإضافة إلى التبادل التجاري الذي يزيد عن نصف تريليون دولار سنوياً- الشريك التجاري الأول- والأهم أن الولايات المتحدة الأمريكية تدرك أن الخبرة البريطانية هو ما يميزها دبلوماسياً وسياسياً، وسعة شبكة علاقاتها خاصة في منطقة الشرق الأوسط، دون أن نغفل الانغلوسكسونية التي تشكّل بعداً ثقافياً مشتركاً بين البلدين، وهو ما حدا بالرئيس ديغول إلى القول: إن “الولايات المتحدة الأمريكية أقرب إلى بريطانيا من أوروبا”.
لا شك في أن بريطانيا ستسعى إلى استغلال تحالفها مع الولايات المتحدة كأداة ضغط على دول الاتحاد الأوروبي، كما أشارت إلى ذلك صحيفة “التلغراف” البريطانية في 20 تموز 2016، وخصوصاً على مستوى تعقيدات البعد الأطلسي، حيث تعتبر ركناً رئيساً فيه، وبالتالي سيكون تعزيز محور هذا التحالف ضمن الشراكة الاستراتيجية قيمة جديدة مضافة لها لما بعد البريكست.
وتتناغم هذه المعطيات مع أهداف الخطة الرسمية البريطانية للمرحلة الجديدة والتي ترجمتها ماي بالرغبة في “تحويل المملكة المتحدة إلى أمة تجارية كبرى في العالم”، ومن ناحية أخرى تستجيب لسد الفجوة السياسية بعد الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، ولكن في مثل هذا الظرف من الضروري الإشارة إلى أن ارتجالية تصريحات الإدارة الأمريكية، وطبيعة تكوين مستشاري الرئيس، جزء منهم رجال أعمال يفتقدون الحنكة السياسية في إدارة الملفات الدولية، ستحتاجان إلى تصويب من الخبرة البريطانية، خصوصاً في القضايا الدولية الشائكة لتثبيت اتجاه بوصلة النظام العالمي وشكل التوازنات فيه.