ثقافةصحيفة البعث

في ذكرى رحيله يوسف الخطيب.. مجنون فلسطين وعندليبها

 

لُقِّبَ بألقاب كبيرة ارتبطت جميعها بمعشوقته فلسطين، فكان مجنونها وأيقونتها وسيفها وعندليبها وسنديانتها والمُدافع عن أرضها ورافع راية المقاومة والتحرير والمقاتل دون هوادة من أجل قول كلمة الحق وقبل رحيله في 15 حزيران عام 2011 بفترة قصيرة كان قد أوصى أحد أصدقائه بأن يحمل إليه حفنة من تراب فلسطين، والمفارقة أن الأمانة وصلت في يوم رحيله ليرافقه تراب فلسطين إلى داره الأخيرة.

توثيق المأساة
لم يكن يوسف الخطيب الذي رحل في مثل هذه الأيام في دمشق وفي قلبه قلق وتوتّر لما يُحاك لها مجرد شاعر أغرته الكلمات وهو الذي كتب أشعاره وأحلامه بدمه وروحه وفكره وقلمه، بل كان إنساناً فلسطينياً بكل معنى الكلمة ومناضلاً دافع عن موقفه الوطني الواضح ودفع ثمن ذلك الكثير وظل مخلصاً لقضيته وشعبه، فكانت أشعاره توثيقاً لمأساة الشعب الفلسطيني بآلامه وأوجاعه وتشرده وكان رمزاً من رموز الأدب الفلسطيني، وتابع بإخلاص مسيرة الأولين من الشعراء أمثال فدوى طوقان وعبد الكريم الكرمي، فكان شاعراً بين المناضلين ومناضلاً بين الشعراء وهو الذي كان من المؤمنين بالقومية العربية وقد عبّر عن هذا الانتماء عبر انتسابه إلى حزب البعث العربي الاشتراكي.
في سنوات طفولته الأولى كان يقول كلاماً كالشعر “وليس بالشعر من أي سبيل” ولكن ما دفعه إلى قول ذلك إدراكه بأن هذا النوع من الكلام المنغم الجميل أشد حلاوةً وطلاوةً من أي كلام عادي يقوله عموم الناس، ولعل أول اهتمامٍ له بهذا النوع من الكلام المختلف-الشعر كان في حضن جدته المعمرة غزلان المشرفة على المئة من العمر، والتي كان يستمع منها للعديد من قصائد أخيها الشاعر الشعبي محمد كاشور، وكذلك في ديوانية الرجال الكبار التي كان يستمع فيها بصحبة أقرانه وبمتعة لا تدانيها متعة إلى شاعر الربابة الوافد من بادية النقب وهو يسرد عليهم سيرة عنترة العبسي أو أبي زيد الهلالي “بتوأمة فريدة من نوعها ما بين السرد النثري والإنشاد الشعري بكل ما من شأنه تجنيح خيالاتنا الطفولية في أجواء أسطورية ملهمة”.. على أن العامل الآخر الذي كان أشد حسماً وأعمق تأثيراً في انجذابه إلى مثل هذا “الكلام المختلف” على أمل أن يقول شيئاً مثله في مقبل الأيام كان ذلك الجهاز الغربي الذي اعتقدت جدته أنه مسكون بالعفاريت، بينما كان يسميه من هم أصغر سناً “صندوق العَجَب” وهو في حقيقة الأمر “الفونوغراف” الذي تعرّف من خلاله الراحل على مطرب الملوك وملك المطربين محمد عبد الوهاب، وإلى كوكب الشرق الدُّرِّي أم كلثوم، وغيرهما، وهم يصدحون بتلك المختارات المتميزة من عيون الشعر “فيا له من كلام يتجاوز حد وصفه بالروعة والمتعة والسريان في عروقك كنوع من مزيج الخمر بالسحر.. ومع أن وعيك الطفولي حتى في أفضل حالاته لا يستطيع أن يحيط إلا بأقل القليل من تفاصيل هذا الكلام وأسراره ومراميه إلا أنه في كل الأحوال يُقلع بك إلى عالمٍ آخر غير عالمك الذي أنت فيه”.

أول قصيدة
يقول الراحل يوسف الخطيب في أحد حواراته أن أول قصيدة كتبها كانت في نهاية الصف السادس الابتدائي حين أطل ذات صباح حزين من شبّاك غرفته في شارع باب الزاوية بالخليل فلم يرَ ابنة جيرانه جميلة وهي في قرابة عمره والتي كان يراها يومياً في شرفة منزلها المقابل بُرعماً متفتحاً من الجمال الملائكي الأخّاذ، بل وكان يعلم أنه لن يراها مرة أخرى أبد الدهر لأن عمل والدها انتقل بها وبكامل أسرتها إلى مدينة اللد، حينها ذرفت عينه قطرة دمع لاذعة كالحنظل، وقال ثلاثة أبيات من الشعر “تكاد لا تُصدِّق حتى يوم الناس هذا أنك أنت الذي قلتها في سن التلمذة الابتدائية تلك”:
ذهبت جميلة فالفؤاد كليمُ
وتَرَحَّلتْ عني فَبِتُّ أَهيمُ

عربي فلسطيني
حين عرّف على نفسه ذات حوار قال:”أنا مواطن عربي فلسطيني، رأيت نور الحياة أول مرة في دورا الخليل يوم السادس من آذار عام 1931 طفولتي المبكرة كانت مفعمة بالحيوية والإثارة، ذقت حلو الحياة ومرّها في جرعة واحدة.. كان أول ما وعيته من شؤون الدنيا هو استيقاظي اليومي مع آذان الفجر على صوت والدتي وهي تصلي وتقرأ القرآن بصوتها العذب الحنون، وكذلك على أصوات الجنود الإنكليز وهم يقتحمون بيتنا بأعقاب بنادقهم وبساطيرهم بحثاً عن والدي لتعاونه مع الثوار، لكن والدي كان قد التجأ إلى سورية للإقامة مؤقتاً بين أبناء عمومته في كسوة دمشق”.. في سن السابعة تقريباً بدأ الراحل يعتقد بقوة بأنه لا بد أن يكون شاعراً في مقبل الأيام، حيث ساعده على مثل ذلك الاعتقاد عدة عوامل ذاتية ومؤثرات خارجية على حد سواء، فمن العوامل الذاتية استعداده الفطري لإنشاد القصائد والأغاني المدرسية الابتدائية بشغف عظيم، ثم محاولة تقليدها والنسج على منوالها بكلمات وأصوات شبه موزونة” ومن المؤثرات الخارجية المؤثر الجمالي الطبيعي لبلدته دورا التي وصفها قائلاً : “آلهة حب وجمال كنعانية، تَرفّق النهار بها، وأهداها الله باقة سِحر كوني.. تَرتسمُ حدودها بالتقاء الأفق مع الساحل الفلسطيني، فهي الصغيرةُ متوسطةً بين يافا شمالاً وغزة من أقصى الجنوب، مكانها جبال الخليل، بالتحديد مُلاصَقَةً بالمدينة” والمؤثر الاجتماعي العام حيث كان يكثر الشعراء الشعبيون، وبعضهم من أقاربه المباشرين، وكانت قصائدهم الشعبية ذائعة الصيت أقرب إلى الشعر العربي الفصيح، والأهم ذلك المؤثر المنزلي من خلال كل ما كان يقع تحت يده من كتب البيت بدءاً من مجاني الأدب إلى جواهر الأدب والمعلقات السبع والنظرات والعبرات وما إلى ذلك.

العندليب المهاجر
عام 1955 كان بداية نقلة مفصلية رئيسية في نتاجه الشعري لعقد الخمسينيات، فبعد مرحلة القصيدة الهائجة الثائرة المجلجلة التي تزامنت في بداية الخمسينيات مع طراوة الجرح الفلسطيني الساخن الذي كان ما يزال قريب العهد، وبعد مضي سبع سنوات في ذلك الحين على هذا الجرح وهو ما يزال مفتوحاً ودافقاً دون أن تلوح في أفق الواقع العربي أية بادرة جادة لإسعافه وتضميده بدأ يحس شيئاً فشيئاً أنه يدخل في مرحلة القصيدة المتأملة الهادئة، ولكنه ذلك الهدوء الظاهر على السطح فقط، بينما هو يغتلي في باطنه وأغواره العميقة بكل نوازع الرفض والتمرد والعصيان على الواقع الراكد، ومع أن “العندليب المهاجر” كانت قصيدته الأولى التي تمثل هذه النقلة البارزة من طبقة الجواب إلى طبقة القرار كما بين هو وبلغة الموسيقيين فإنها للحقيقة ليست القصيدة الوحيدة من هذا النوع، بل لقد أردفها بقصائد عديدة أخرى من مثل “بحيرة الزيتون” و”أغان من فلسطين” و”نغم لم يتم” وهي جميعها لم تكن مجرد انزياحات عاطفية منفعلة بقدر ما توخى لها أن تكون شعلاً عاطفية فاعلة ومحرقة في قتام واقعنا العربي.

مجنون فلسطين
كان هاجسه الكبير طيلة مسيرته الشعرية التي ظل يصفها بالمتواضعة التجديد إلى أبعد الحدود، ولكن على قاعدة التأصيل إلى أعمق الجذور.. من هنا جاءت تجربته التأسيسية في ديوان “مجنون فلسطين” السمعي والمسجل على أشرطة كاسيت تجربة غير مسبوقة في ميدان الشعر العربي، محولاً فيها الانفصال شبه الكامل عن جميع الطرائق التقليدية في نشر الشعر وإيصاله إلى جمهرة المتلقين، إلى جانب ما تمثل من وجهها الآخر اتصالاً كاملاً أيضاً بتلك الخاصة التراثية الفريدة للشعر العربي من جهة حضور الشاعر المباشر بين يدي جمهوره، كما كان عليه الحال في المربد وعكاظ، أو ترحاله عبر الآفاق البعيدة في سبيل أن ينشد ما قد أبدعته قريحته أمام الأفراد والجماعات على حد سواء وهكذا ظل حال الشعر العربي لمئات الأعوام اللاحقة أقرب إلى طبيعة النفس العربية مسموعاً أكثر منه مقروءاً، على أن المذكرة الفلسطينية التي أصدرها عبر دار نشره دار فلسطين كانت الأكثر تأثيراً ورسوخاً في الذاكرة، حيث قام الخطيب بتسجيل يوميات القضية الفلسطينية فيها بالاستناد إلى عدد من المراجع الهامة في هذه القضية، وقد دأب على إصدارها لمدة تسع سنوات (1967-1976) بخمس لغات عالمية هي العربية، الإنكليزية، الفرنسية، الإسبانية، والألمانية.

العودة واجب
كان يوسف الخطيب يؤمن أنه لا يولد سلم إلا من خلال القوة، والعودة لفلسطين ليست حقا إنما واجب، وكان ضد كل من يطالب بحق العودة لأن هذا الحق لن تعطيه سويسرا أو بريطانيا أو غيرها، وكان الراحل يوسف الخطيب يؤكد دائماً أنه ليس الوحيد الذي كتب عن العودة في وقت مبكر لأن الشعب الفلسطيني بأسره هو الذي اعتمد هذا الشعار بمرتبة الإيمان المطلق به منذ لحظات اللجوء الأول في سنة 1948 “لأنك لو سألت أي لاجئ فلسطيني في تلك السنة لماذا تحمل مفتاح بيتك معك؟ لأجابك على الفور وبمنتهى البداهة لأننا عائدون” وشعراء أمثال هارون هاشم رشيد وخليل زقطان وخالد نصرة قد ارتفعت أصواتهم بهذا الشعار الوطني بشبه إجماع عفوي.
كان في الوقت نفسه يتناوب العمل ما بين الإذاعة السورية في دمشق والإذاعة الفلسطينية في رام الله، وكان برنامجه الإذاعي الأسبوعي يتنقل به من هنا إلى هناك وهو “عائدون” بشارته الموسيقية الشهيرة من افتتاحية “الشاعر والفلاح” للموسيقار النمساوي “سوبيه” ثم لم يلبث في خاتمة ذلك العقد –أي في سنة 1959- أن أصدر ديوانه الشعري الثاني عن دار الآداب في بيروت حاملاً أيضاً عنوان “عائدون” لأن قضية العودة في إيمانه الراسخ العميق ليست مجرد جمالية شعرية عذبة يتغناها الشعراء في لحظات تحليقاتهم في سماوات الخيال البعيدة، بل هي أقرب إلى “الفكر ألف مرة أكثر من الشعر”.

أمينة عباس