ثقافةصحيفة البعث

“الإحساس بالنهاية” صور مرسومة بحروف مبدع

 

ماذا يعني التاريخ؟ كلّنا نأكل ونشرب وننام، فهل هذا ما نسمّيه “التاريخ”؟ هناك شيء ما ينبغي أن يتحطّم كي تصبح الرّحلة أقلّ وضوحاً كما يقول الكاتب والروائي البريطاني، جوليان بارنز، عضو الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم، وليجيب عن سؤاله بتفصيل أكثر، قدم لنا مشكلة عقلية رواها في عمل صغير الحجم يقع في 150 صفحة باللغة الإنكليزية.

هي رواية عن الذاكرة والعقل وأسباب انحراف الواقع عن العالم الذي نشيّده داخل عقولنا، تحكي قصّة حبّ توني ويبستر الفاشلة لعشيقته فيرونيكا على مدار ستين سنة. وقد قسّم بارنز روايته إلى جزأين، الأول يبدأ بالذكريات المدرسية للبطل، يشرح فيه كيف تعرّف على حبيبته الأولى ويذكرُ زيارته لبيتها وتعريفه إيّاها على أصدقائه الثلاثة، ألكس، كولن، وأدريان.

تسيطر مشاعر الحنين إلى الماضي على البطل بالرغم من إثارة الإحساس بالندم حول بعض مواقف سلبية له من الحياة تتحول إلى رغبة في التصالح مع الذات. وينتقل في جزئها الثاني للإجابة عن تساؤله “ما التّاريخ؟ وما هو سرّ الوِرثَة!” فنبش ماضي وبستر حدثاً حدثاً، وشخصاً شخصاً. والانتقال الراديكالي بالزّمن من نهاية المدرسة وحتّى بلوغ الستينيات من العمر، فيه خطورة تنطوي على إغفال أحداث كثيرة كان لا بدّ له أن يتوقّف عندها. وأصرّ بارنز، ألّا يشارك أحد توني في السرد، كمحاولة للقول إنّ الرّواية هي جزء من تاريخ وبستر، جزؤه الذي أملته عليه ذاكرته بما فيها من ثقوبٍ يتسرّب الماضي منها.

يتفنن الكاتب برسم التفاصيل الرتيبة بأسلوب مخادع، يجعل القارئ يجري وراءه متشوقاً إلى معرفة المزيد، فقد واظب توني وبستر على نمط حياةٍ عادي، على عكس صديقه أدريان الذي كان صدامياً في تعامله مع الحياة حتى أنه تمكن من الاستحواذ على إعجاب حبيبته التي خسرها هو إلى الأبد. وهناك تفاصيل لا يمكن للبطل إبرازها بقدر ما يمكنه تقبلها، كصدامه مع والد وأخ حبيبته.

تقول الرواية الكثير بإيجاز بالغ، ويمكن إنهاؤها بمدّة قصيرة جداً، ولو أراد القارئ لأمكنه تلخيص أحداثها في صفحة واحدة، ما يشعرنا بأن جوليان بارنز مفتون بالفلسفة وما يعني أنّ تطوّر الشّخصيّة، الدّاخلي قبل الخارجيّ، هو جزء لا يمكن فصله عن الأحداث الواقعة خارج الشخصيّات.

ولا تفتقد الرواية إلى أية مهارة بحسب كثير من النقاد، وكل ما يحتاجه القارئ أن يدرك القيمة الإبداعية للنص، وهي آخر أعمال بارنز ومن أفضلها، فاز بها بعد ترشيحه للمرة الرابعة، بجائزة “مان بوكر” العالمية عام 2011 (أهم جائزة تقديرية تمنح لأفضل عمل أدبي باللغة الإنجليزية لكتاب دول الكومونولث). والغريب أن أعمال بارنز على أهميتها وتنوعها لا تجد قبولاً في دور النشر العربية، فلا نجد من تراجمه إلّا المعدود. وقد أنتجت الرواية كفيلم سينمائي عام 2017، ونال الكثير من الآراء الإيجابية حول العالم.

سامر الخير