ثقافةصحيفة البعث

“عندما نقرأ الفلسفة كقصة”.. معنى الحياة وسبل الخلاص والخلود

 

تولد الفلسفة اهتماماً متزايداً، وربما الأمل في تقديم معنى لوجودنا، وذلك في عالم متأزم حيث ينتشر منطق المنافسة على نحو أعمى، فالرغبة في الإفلات من هذا الإحساس بضياع مصيرنا من أيدينا تتعاظم بقدر ما أن المُثل التقليدية والسير الكبرى (الروحية والدينية والوطنية أو الثورية) التي كانت تُستلهم لتوجيه حياتنا افتقدت على نحو واسع قوَتها في الإقناع حيال واقع لم يعد لها تقريباً أي نفوذ عليه. ما الذي يجعل الحياة في أعيننا تستحق أن تُعاش ونتمسك بها رغم معرفتنا بقصرها وخاتمتها؟ وما الذي يجعلنا على استعداد للموت باندفاع من أجل مُثل أو اعتقادات؟. لم يبقَ لنا من اختيار سوى البحث عن سبيل للنجاة، اللهم إلا إذا انسقنا مكتفين بنوع من الغيظ المتسم بالحنين، في سياق البحث عن أجوبة يبرز من جديد الاهتمام بالفكر الفلسفي. فما الفلسفة؟ ماذا ننتظر منها؟ ألا نزال في حاجة إليها؟ بماذا يمكن أن تساعدنا في عصر تبدو فيه المنزلة الإنسانية خاضعة لتوسّع هيمنة الابتكارات التكنولوجية؟

لكن الاكتشافات العلمية والإصلاحات السياسية والإبداعات التقنية لا تخبرنا، مهما تكن خصبة، أي ضرب من الحقيقة نستطيع بلوغه، ولا تعزز أو تمنح مشروعية لقيمنا الأخلاقية، بل لا تروي تعطشنا إلى الظفر بإجابة عن تساؤلاتنا عن كيف تكون حياتنا، حياة طيبة لنا نحن البشر الفانين، حياة كفيلة بإنقاذ وجودنا من السّخف الذي يتهددنا.

الإجابة عن هذا التحدي بالوسائل الإنسانية الصرف التي يوفرها التفكير العقلي إنما هو تحديداً موضوع الفلسفة القصوى، وبما أن الفلسفة هي قراءة في تاريخ الأفكار، ومن خلالها نستقي تصورات جديدة ومختلفة عن هذا الكون، عن هؤلاء البشر الذين سبقونا إلى هذا الوجود، لكي نسافر في رحلة مثيرة عبر تلك الحقب الفلسفية الكبرى، بدءاً من السؤال الوجودي الأول الذي طرحه الإنسان مسائلاً المجرات والنجوم، حتى هذه اللحظة الراهنة في عصر العلوم والتقنية.

يقدم “لوك فيري” في كتابه “أجمل قصة في تاريخ الفلسفة” نبذة عن تلك الحقب الفلسفية الكبرى التي شهدتها البشرية مستعرضاً الأفكار والمقولات التي ساهمت في تأسيسها، يقسم الكاتب الفلسفة لخمس حقب رئيسية، الأولى منها تتناول العالم القديم  التي كان محورها الرئيسي “هزيود والأساطير اليونانية” التي مهدت لنشأة الفلسفة القديمة أو ما سمي بـ “المعجزة اليونانية”، تناول نشأة الأرض والآلهة والبشر وانبثاقها من الفوضى، ويوضح الكاتب هنا أن النظام المتناغم في العالم هو من صنع الآلهة الذين يمتلكون سمات وطبائع مشخصة بوضوح ولها صلة بالنشاطات البشرية كالفنون والحرب ومواسم الحصاد، فكان لابد من إدراج أفق من التنظيم الثقافي لإحداث توازن دائم بين القوى البدئية، وهذا النظام الكوني المقتبس عن الميثولوجيا سيتحول فيما بعد إلى خطاب فلسفي من قبل المفكرين الكبار مثل أفلاطون وأرسطو. تتميز الحقبة الثانية بأنها “الخلاص بالإله والإيمان” حيث يتناول فيري سيطرة الفكر اليهودي المسيحي الذي قدم رؤية جديدة ومختلفة لهذا العالم، وأعطى تصوراً جديداً لمعنى الحياة فيتطور الفكر هنا لنجد أن ما يحقق الخلاص أصبح مغايراً عما قدمته الفلسفة اليونانية التي تقول بأنه نظام كوني لا شخصي، أما المسيحية فقد اعتمدت أن الإله هو المخلص، في هذه المرحلة أصبح يُنظر للإنسان على اعتباره فرداً بدلاً من كونه قطعة منسية في نظام كوني كبير ممهدة هذه المرحلة للانتقال إلى الحقبة الثالثة عنونها الكاتب بـ”الإنسانوية الأولى الخلاص بالتاريخ التقدم” تناول شخصية بيك دي لا ميرندول بصفته مفتتح الفلسفة الإنسانية التي يُنظر فيها إلى الإنسان “كفرد” مستقل، الإنسانوية طرحت فكرة جديدة في مسألة معنى الحياة وأعادت التساؤل الأقصى في الفلسفة إلى موطنه الأصلي فهو لم يعد مرتبطاً بالنظام الكوني كما قدمته الفلسفة اليونانية، ولا مصدر خارج الإنسانية ومتعال عليها، بل أعادته إلى الإنسان ذاته.

الحقبة الرابعة كانت زمن التفكيك والتي بدأها الكاتب بشوبنهاور فيلسوف التشاؤم بامتياز وهذه الحالة ليست مرتبطة من إحساس نفسي إنما صادرة عن موقف فلسفي فهو يريد أن يبين بالحجة والعقل أن الوجود ليس له معنى وأنه عبثي تماماً، ثم خصص مساحة واسعة لنيتشه أو كما يدعوه الكاتب بفيلسوف المطرقة أهم الفلاسفة التفكيكيين فكان نيتشه يريد تحطيم الأوثان وكان يمقت المثل العليا لأنها هي التي تؤسس للمواقف النضالية المعدة لإحياء الوهم فينا بأن الوجود له معنى، وكان ختام هذا العصر مع هيدجر عالم التقنية، فنظرته إليها كانت من زاوية فلسفية فما يشكل العالم الحديث هو التقنية التي تسير وفق إرادة القوة أو إرادة الإرادة كما حددها نيتشه.

الحقبة الخامسة هي ثورة الحب، وفيها يبرز مبدأ جديد لمعنى الحياة قادر على الحفاظ على مكتسبات التفكيك وفي نفس الوقت تجاوز تناقضاته، في هذا العصر يحاول الكاتب أن يعبر عن فلسفته الخاصة والتي سماها “الإنسانوية الثانية” والتي تعطي معنى لأبعاد الوجود، يرى الكاتب قيمة الحب هي القيمة الوحيدة في تزايد على عكس كل المثل التقليدية الدينية منها والأخلاقية والوطنية والثورية التي فقدت بريقها وقوتها في الجذب، ويعتقد أن الحب قادر على إضفاء طابع مثالي على كل ما يمكن أن يكون محبوباً في جميع الفرديات الإنسانية.

في رحلة مترابطة الأحداث عبر تاريخ الفلسفة يأخذنا الكاتب للكشف عن بحث الإنسان الأبدي وحيرته حيال معنى حياته وسبل الخلاص والخلود، “لوك فيري” قدم التاريخ الفلسفي ببساطة وعناية بعيداً عن التعقيدات الفكرية وطلاسم الفلاسفة عبر سبر الأنساق الفلسفية.

علا أحمد