الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

اذهبْ.. حيث يقودُك قلبك!

حسن حميد

قرأت الكثير من الكتب النقدية المهمومة بالأدب التي حاولت تقريظ الموضوعات وبيان أهميتها على حساب المعمار الفني للنص الأدبي، وتلك التي حاولت الانتصار للشكل والتقنيات على حساب الموضوعات.
والحق إن في اجتماع الموضوع والشكل معاً صوابية هائلة تجعل من النص الأدبي مدينةً أو غابةً أو مرأةً من أجل الإحساس الذي يروم التحليق، والمتعة التي تنشد الذهول، والبناءات التي توازي في حضورها السحر الحلال.
أقول هذا الآن، وأنا أطوي آخر صفحة من رواية إيطالية عنوانها جذّاب هو (اذهبْ حيثُ يقودُك قلبُك)، يشير إلى البعد العاطفي، ولكن صفحات الرواية تقود القارئ إلى معرفة المجتمع الإيطالي خلال حيوات أجيال ثلاثة هي الجدة، والابنة، والحفيدة! وبيان تأثيرات الحياة بكل ما فيها من عادات وتقاليد وأعراف وما تجعل به من تصورات، في العمر الجيلي الذي عاشته الجدة، والابنة، والحفيدة، ورصد الثوابت والمتغيرات من خلال: المكان وتبدلاته، والزمان وما أضيف إليه، والحياة العاطفية وما شال بها إلى دنيا الخيال والحلم!
الرواية من تأليف الكاتبة الإيطالية سوزانا تامارو، وهي من مواليد عام 1957، أي الجيل الذي لم يعرف الحرب العالمية الثانية وما صاحبها من توجهات مثل العنصرية، والنازية، والفاشية، ولكن آثار الحرب لحقت به لأنه كان جليساً لمن عرفوا الحرب، فأخذ عنهم بعض طعومها المُرة، وصورها الموجعة، ومآسيها العاطبة، وأحداثها الرَّاعبة! بدأت سوزانا تامارو الكتابة في النصف الثاني من السبعينيات، وقد نالت حظوة وشهرة في بلادها (إيطاليا) بعد أن نالت جوائز أدبية مهمة مثل جائزة إيتالو كالفينو، صاحب مدن الحلم، وجائزة القلم الوطني! ولها اليوم حوالي عشرين رواية، منها ما توجه إلى الأطفال عبر الروايات والقصص.
هذه الرواية (اذهبْ حيثُ يقودُك قلبك) تروي سير حياة كثير من نساء هنّ: الجدة، والابنة، والحفيدة. اثنتان منهما حاضرتان، وهما الجدة والحفيدة، الابنة، أي أم الحفيدة، غائبة، طواها الموت، الجدة تقوم بدور السارد، فتتحدث عن سيرتين، سيرتها وسيرة ابنتها، وتقصهما على الحفيدة عبر رسائل طائرة من إيطاليا حيث تسكن الجدة إلى أميركا حيث تعيش الحفيدة! في سيرتي الجدة وابنتها تلبث طويل عند حياتهما العاطفية، فتحتشد الأسطرُ وتتالى الصفحاتُ تترى من أجل الحديث عن الحب والرجل العاشق، وعن خيبات الحب الفادحة على الرغم من التضحيات للجدة وابنتها. الجدة تصير لها ابنة بقوة الحب لا بقوة الزواج، والابنة تصير لها ابنة (هي الحفيدة) بقوة الحب لا بقوة الزواج، ولا رباط بين الجدة والابنة، ومن بعد لا رباط بيت الابنة والحفيدة، سوى عشقهن للحب على الرغم من أثمانه الباهظة، ومتاعبه القاتلة، وأسراه الثقيلة. ثلاث قصص للحب تتناوب عليها تقنية الرسائل، الجدة تخبر عن حبها المدمر وبيعها للعالم كله من أجل الحبيب، كما تخبر عن حب ابنتها التي كانت بلا عقل، بلا سمع، بلا حكمة، بلا بصر.. وقد اقتحمت عالم الحب المؤجج بالنيران الحارقة، والحفيدة التي تستمع طويلاً، هي الأخرى تسرد قصة حبها التي فيها من الجنون ما يفوق جنون الجدة والوالدة.
وكل هذا مهم في الرواية كي نرى ترسيمات الحب ونقوشه في أزمنة ثلاثة تمثلها المتوالية الجيلية: الجدة، الابنة، الحفيدة! ولكن الأكثر أهمية يتمثل في معرفة المجتمع الإيطالي في تلك البرهة من الزمن عبر ثوابته، ومتغيراته، وماذا رفعت يد الحرب العالمية، وماذا أبقت!
سطوح الرواية كثيرة، وأبداه السطح العاطفي، لكن أعماقها كثيرة ومتعددة، وأبداها معرفة ما فعلته الحرب في كائنين اثنين هما: الحياة، والإنسان!
Hasanhamid55@yahoo.com