دراساتصحيفة البعث

 مرة أخرى: الحزب مؤسسات أم جماهير؟

الرفيق العميد تركي حسن

باحث في مركز دمشق للأبحاث والدراسات- مداد

-1-

في لحظة الاشتباك السياسي والعسكري وشلال الدم المتدفق وتدمير البنى التحتية والقدرات نتيجة الحرب المفروضة علينا، ونحن في عز الحرب منذ أكثر من سبع سنوات.

جميلٌ ومفيدٌ أن نجد فسحة لنقرأ ونكتب ونناقش ونحاور في الفكر السياسي… ما دفعني إلى هذا ما كتبه الرفيق د. عمران في زاوية “كلمة البعث” بعنوان: (الحزب مؤسسات أم جماهير)، وقد أعادنا إلى طرح مسألة الحزب، والحياة الحزبية، والكوادر الحزبية، وعلاقة الحزب بالجماهير والنقابات، والمنظمات الشعبية، ودور الجميع في ترسيخ الاستقلال والسيادة الوطنية والاستقرار والدفاع عن الوطن…

لقد طرح المقال أسئلة صعبة لم يجب عليها وتركها مفتوحة للجميع لمناقشتها والإدلاء بدلائهم حولها، فقد تشكل  مستقبلاً أرضية للحوار داخل وخارج الحزب، ومادة للنخب الثقافية والحزبية في البعث وخارجه… وأهمها:

1- الجماهير وكتلتها الصلبة في زمن العولمة وضعف الصلابة الايدلولوجية وأثرها على وسائل العمل الحزبي؟/2- مقاربة العلوم الإنسانية لمفهومي الجماهير والشعب، ومفهومي الشعب السياسي والشعب الاجتماعي وأثر ذلك على المؤسسات الحزبية وأساليب عملها المستقبلي/3-ثنائية مؤسسات الحزب وجماهيره وتمايزهما ومن منهما الأولى بالاهتمام؟… وهل العلاقة بينهما عضوية؟/4- التفريق بين عمل الحزب وعمل المنظمات والنقابات… تفريق بين مصلحة التنظيم السياسي، ومصلحة الجماهير- الاقتصادية والاجتماعية- وما شكل العلاقة- إملاء وتدخل- أمر وخضوع- أم ارتباط طوعي؟/5- دور الحزب وجماهير في مهام البناء الوطني والعربي من حيث هو ضرورة وطنية وعروبية وإنسانية؟/6- المراجعة النقدية كضرورة، وعدم اتفاق البعثيين على الأولويات ومن يتقدم المؤسسات أم الجماهير؟.

ولكن الأسئلة الأصعب والأخطر والأجرأ والمباشرة والتي تحتاج إلى تحليل وحوار عميق والإجابة عنها كانت:

  • أولاً: هل شاخت أفكار البعث؟
  • ثانياً: هل قوة البعث في ضعفه الايديولوجي؟
  • ثالثاً: ما جدوى عودة الشيخ إلى صباه؟

أسئلة لا يمكن تجاهلها، وهي محرضة على الحوار والإجابة عنها… وأن المعني بالدرجة الأولى  بالإجابة هم:

– قيادات البعث بحكم مسؤوليتها القيادية.

– كوادر وقواعد الحزب التي لا شك بأنها تضم إمكانيات فكرية وقدرات شخصية تستطيع الإجابة عن هذه الأسئلة، وإجراء المراجعة الفكرية والتنظيمية النقدية لما تختزن من تجربة عميقة عبر عقود من النضال.

– النخب الثقافية والفكرية بغض النظر عن اتجاهاتها الفكرية والتزاماتها التنظيمية لأنها تمتلك قدرات حوارية يمكن أن تضيف وتجيب وتسهم في إغناء الحوار… وقد تفتح الباب على أسئلة أخرى.

– الأحزاب الأخرى المشاركة في الجبهة وخارجها- القديمة والحديثة لأن هذه الأسئلة تهمها وتواجهها وهي موجهة لها كما هي موجهة للبعث.

-2-

الجماهير وكتلتها الصلبة في زمن العولمة، وضعف الصلابة الإيديولوجية وأثرها على وسائل العمل الحزبي؟

– هذا المصطلح يرتبط بمفهوم الثورة التي تهدف إلى تغيير عميق في بنية المجتمع وأسسه القائمة وليس إحلال طبقة حاكمة محل أخرى وأنماط لعلاقات سلطة جديدة، ويطلق على من يحمل عبء الثورات الكبرى /الكتلة الحرجة/ التي تشكل الطليعة الثورية والتي تمتلك القدرة على صناعة حالة ثورية دائمة في انتظار التحرك الكبير للجماهير.

ويعبّر عنه بتشغيل المحرك الصغير (الطليعة) من أجل تشغيل المحرك الكبير (الجماهير).

وبالتالي هناك فرق بين الطليعة الثورية (النواة الصلبة) والكتلة الثائرة الجماهير، فالأولىحاملة والثانية داعمة.

والسؤال في زمن العولمة هل لا يزال للكتلة الصلبة هذا الدور خاصة وأن الصلابة الإيديولوجية تضعف شيئاً فشيئاً،  مما يفرض نفسه على أساليب وأدوات العمل الحزبي والجماهيري؟ أرى أن هذا يعود لضعف النقاء الإيديولوجي، واعتماد الأساليب القديمة في العمل الحزبي والجماهيري، وعدم تطوير أدواتها في ظل عالم متغير وانفجار معرفي وعلمي وتقني وتواصل عالمي لحظة بلحظة، واشتغال على العقول واستخدام القوة الناعمة أفضى إلى عدم توافق حركة الحزب مع حركة الجماهير. مع أن الحزب كأفراد يتفاعل مع  الآخرين كالآخرين.

فهل استطاع البعث أن يتجاوز ذلك ويطور من أساليبه، وهل مارس دور المحرك الصغير لتشغيل المحرك الكبير؟ وهل استطاع أن يشكل الشرايين أو الأسلاك الناقلة بالاتجاهين بأن يدفع ويوحي للجماهير فكراً ونموذجاً وسلوكاً لتعيده الجماهير إليه إلهاماً؟.

علينا الاعتراف بأن الحزب لم يستطع ذلك، وهذا بسبب نظرة أعضائه إليه كسلطة وليس كقوة محركة، وتحوّله إلى كتلة فضفاضة بطيئة الحركة وغير متجانسة فكرياً، وتعثره في استيعاب وفهم تطور حركة المجتمع ومخاطبته بوسائل العصر

-3 –

مقاربة مفاهيم:

الجماهير والشعب- الشعب السياسي والشعب الاجتماعي.

  • الشعب هو أحد أركان الدولة الوطنية أو القومية بالإضافة إلى الإقليم (الأرض) والسلطة السياسية، وهو غير السكان. وينبثق من مفهوم الشعب مفهومان: الشعب السياسي، والشعب الاجتماعي، وبالتالي فالشعب مفهوم مرتبط بالدولة. وفي حال فقدانها يصبح مقسماً بين دول أو تابع إلى دول.
  • فالشعب مجموع الأفراد الذين يعيشون على إقليم الدولة وينتسبون إليها عن طريق التمتع بجنسيتها، ويطلق عليهم مواطنون سواء أكانوا يعيشون في دولتهم أو رعايا يعيشون في الخارج وفق رابطة سياسية وقانونية يجتمعون تحت سقف عقد اجتماعي بغض النظر عن تعدادهم. وهذا ينطبق على مفهوم الشعب الاجتماعي.
  • أما مفهوم الشعب السياسي فيعني: كل من ينتمي إلى شعب ما برابط الجنسية ويتمتع بمجموعة من الحقوق السياسية التي تتيح: العمل السياسي والحزبي والتنظيم السياسي والنقابي وحرية التعبير والرأي وتولي الوظائف العامة وحق الترشح والانتخاب وفق الشروط القانونية التي تجيز ذلك.
  • أمَّا مفهوم الجماهير: فهو مفهوم يختلف عن الجمهور، فالمقصود بالجمهور هو أكثرية وقد ينسحب على نشاط رياضي كأن نقول جمهور فريق كرة القدم السوري، أو على نشاط فقهي كأن نقول جمهور الفقهاء…الخ.

أما الجماهير: فهي الأكثرية الساحقة التي لا تصل إلى الإجماع، ولكي تحرك الكتلةُ الصلبة (الحزب) الجماهير لا بد أن تتعرف وتقرأ وبشكل علمي وفعّال سيكولوجية الجماهير التي تتحرك ضمنها وتحركها. لكي يضمن أن يشغل المحرك الصغير المحرك الكبير. فهي كما يقول غوستاف لوبون عنها: ليس المطلوب من الجماهير إدراك كل الأفكار، فهي ترفض الأفكارأو تقبلها كلاً واحداً  دون أن تتحمل مناقشتها. وما يقوله التنظيم أو الزعيم /القائد/ يسيطر على العقول فتحوله إلى حركة وعمل. وما يوحى إليها ترفعه إلى مصاف المثال ثم تندفع بصورة إرادية إلى التضحية بالنفس، فالتعاطف عباده والنفور كره. هنا يأتي دور الحزب في تهييج الجماهير. وما يصهرها نحو هدف واحد. أهي عقائد مادية- أم دينية. وما دور القائد (الزعيم) المحرك؟ وهل الجماهير عاقلة بطبيعتها وديمقراطية أم متهيّجة وثائره؟.

-4-

أثر المفاهيم

على المؤسسات الحزبية وأساليب عملها:

– بتقديري أن الحزب يجب ألا يكون على صورة ومثال الجماهير، بل على صورة ومثال المجتمع المنشود. وهنا لا بد أن يعبر بوضوح عن الشعار والأهداف وبيان منطلقاته الفكرية والعمل على إيصالها لبنيته التنظيمية وإقناع الجماهير بصحتها وبيان مدى ارتباط مصلحتها في هذه الأهداف بحيث يلتقي العام والخاص.

كما يجب أن تكون نظريته وبنيته التنظيمية نموذجاً يحتذى للجماهير بحيث يحقق الديمقراطية داخل التنظيم، وأن تأتي القيادات نتيجة لعملية ديمقراطية داخلية تقنع الحزب والجماهير بسلامتها وبالتالي ستكون هذه الممارسة الحزبية صورة مصغّرة عن الممارسة في الحكم. وإلّا سيحدث فجوة كبيرة تفضى إلى عزوف الجماهير عن التفاعل مع الحزب. فقد أرخت الأزمة بظلالها القاتمة على المشهد الحزبي، فالاجتماعات هشة ونسبة الحضور متدنية ومضمون الاجتماع رتيب، والقيادات يجري تعيينها بعد مرحلة كانت الآمال معقودة على الانتخابات  التي أجريت، وأفرزت قيادتها رغم ما شابها من تكتلات، والأخذ بالتعيين من ضعفي العدد الناجح ثم ثلاثة أضعاف وأحياناً  التعيين من خارج الناجحين وصولاً للإقلاع النهائي أو المرحلي بالأحرى عن الانتخابات.. كما أن القيادات داخل الحزب ومع الجماهير والنقابات تعاملت كسلطة وطيلة الحرب لم تؤد دوراً منشوداً في تشكيل وصناعة الوعي والرأي العام والاتصال بالجماهير.

وانطلاقاً من تجربة الحزب السابقة وتجارب الأحزاب الأخرى في الداخل والخارج وكيف أمنت استمراريتها وتطوير تجربتها ، بعضها امتد لأكثر من قرن بات لزاماًعلى الحزب إعادة تقييم التجربة والاستفادة مما يقدمه العصر من تجارب ووسائل اتصال حديثه تفضي إلى تعديل في الآساليب السابقة للعمل الحزبي والسياس ي والجماهيري انطلاقاً من فهم وأسس جديدين لآليات العمل والحوار وفق اتجاهين أساسيين:

  • تنظيمي- حزبي
  • جماهيري- شعبوي

أولاً: التنظيم الحزبي من خلال:

1- تغيير فلسفة الانتساب إلى الحزب من التنسيب الكمي إلى النوعي./2-التركيز على البنية الفكرية والمسألة التثقيفية لصقل كوادر وأعضاء الحزب فكرياً وتوحيد المفاهيم والآراء ليبدو الحزب جسماً واحداً يعبر عن أفكاره./3- تطبيق الديمقراطية وتعزيز ممارستها داخل الحزب- سواء بالانتخابات المتسلسلة وإفراز قياداته- حرية الرأي والمناقشة داخل الحزب- احترام الرأي والرأي الأخر وخاصة احترام الآقلية. وفق نظامه الداخلي./4- تحويل الاجتماع الحزبي ليشكل نقطة جذب لأعضائه وتفعيله بعيداً عن الرتابة والنمطية السائدة مما يعيد الاعتبار له.

ثانياً: جماهيري شعبوي من خلال:

1- الإقلاع عن الدور السلطوي والقيادة المباشرة، والتفاعل المباشر والمشاركة عبر القواعد والكوادر وسط الجماهير والمنظمات والنقابات.

2- اتباع خطاب جماهيري باستخدام كل الوسائط والتقنيات الحديثة التي تؤمن التواصل والاقناع.. وهذا يختلف عن الخطاب الحزبي الداخلي في الشكل والمضمون.

3-إنهاء الوصاية الحزبية المباشرة على المنظمات والنقابات والعمل على قيادتها وتفعيلها من خلال قدرة الكوادر الحزبية على العمل ضمنها. ويكون دور الحزب التوجيه لكوادره والمراقبة دون إملاءات مباشرة وخضوع وإنما بإرادة طوعية.. وبالتالي تأخذ المنظمات دوراً مستقلاً .. وتعمل على قضاياها النقابية والمطلبية الاقتصادية والاجتماعية فتميز بين المصلحة السياسية للحزب المتحققة من خلال كوادر الحزب الموجهة والمشاركة وبين مصالح المنظمات والنقابات التي يجب أن تلتقي مع بعضها ويجب أن لا تتناقض المصلحتان فالحزب يسعى لمصالح الجماهير والحضور الدائم والإسهام في النشاطات الثقافية والاقتصادية والفنية والرياضية والعمل الاجتماعي المباشر ورعايتها.

-5-

دور الحزب وجماهيره في مهام البناء الوطني والعربي كضرورة وطنية وعروبية وإنسانية يمكن أن يؤسس الحزب لدوره وبقية الأحزاب وجماهيرها للبناء الوطني فتقوم على دعامتين:

الآولى داخلية: بمعنى تتعلق بالحزب (الأحزاب) وهي:

1-أن يطرح الحزب شعاراته وأهدافه ومبادئه وفق مفاهيم وطنية وقومية وإنسانية.

2- أن يعكس الحزب في بنيته التنظيمية تلك الشعارات والأهداف بحيث لا يكون عرقياً أو طائفياً أو إقليمياً أو مناطقياً بل يعكس النسيج الاجتماعي الوطني والقومي.

3- الحرص على المسألة التثقيفية في الحزب لتوعية كوادره وقواعده وصقلهم ليشكلوا وحدة ثقافية وسياسية فاعلة تستطيع نشر فكره وآرائه السياسية والثقافية في الجماهير.

4- استعداد الحزب للدفاع عن الوطن عندما يتعرض للأخطار والوقوف إلى جانب ومع قواته المسلحة وتقديم التضحيات.

5- تعزيز دور الدولة والمساهمة في خططها للبناء الاقتصادي والاجتماعي والتصدي للغزو الثقافي والفكري وفي نشر الوعي ضمن الجماهير.

6- أن يعمل على تعزيز المبادئ السابقة ضمن الجماهير بحيث يؤدي ذلك إلى تشكيل وعي جماعي للشعب يلتقي حول النقاط السابقة.

-6-

هل شاخت أفكار البعث؟ وهل قوة البعث في ضعفه الإيديولوجي؟ وما جدوى عودة الشيخ إلى صباه؟

لا ينكر أحد بأن البعث قدّم إسهامات كبيرة في الفكر السياسي المعاصر… وينظر الجميع إلى أن حركة البعث استوعبت وورثت حركة النضال القومي سواء في أواخر الدولة العثمانية فترة النهوض القومي أو الاحتلال الآوروبي وورثت مقولاتها، وأعادت صياغتها بشعارها “أمة عربية واحدة… ذات رسالة خالدة” والآهداف “الوحدة والحرية والاشتراكية”… ولم يأت بعده حركة أو حزب أو تيار أو تجمع إلا واقتبس منها… وهذا لا يعني عدم وجود تيارات سياسية وفكرية قوية ومنافسة آنذاك، أهمها:

1- تيار قومي منافس تمثل في الحزب السوري القومي الاجتماعي، ولكنه يختلف في مقاربته الفكرية للمسألة القومية.

2- تياران أمميان في اتجاهين متناقضين:

– ماركسي شيوعي

– إسلامي… الإخوان المسلمين.

3- تيار ليبرالي ديمقراطي يأخذ النموذج الغربي.

إذاً فما السر في تصدّر البعث؟ باختصار، لأن الشعار والأهداف التي صيغت عبّرت وبقوة عن الشارع العربي ولامست وجدان العرب، كرد على واقع التجزئة بالوحدة، والاحتلالات بالحرية، والظلم الاجتماعي والتخلف الاقتصادي والنظم السياسية بالاشتراكية…

وبمناخات أنتجتها الحرب العالمية الثانية من ظهور الاتحاد السوفييتي وتراجع الاستعمار الكولونيالي، وبدء المد القومي.

فالأمة الواحدة والقوة وحقها أن تحيا في دولة واحدة والتحرر من الاستعمار والانعتاق من الظلم أحلام دغدغت الجماهير والنخب وأهداف ومبادئ جامعة لا خلاف عليها، خاصة أنها أتت عامة بدون تحديد لهويتها ومضامينها… وبالتالي تصلح لكل الاتجاهات الفكرية من اليمين واليسار والإسلامي، وتركت الباب مفتوحا للتحولات ولتحديد الهوية والخيارات تحت مقولة عدم الأخذ بالنظريات والقوالب الجاهزة. وبناء نظرية نضالية من الواقع وتحولاته مما أكسب الحزب قوة لأن تنظر كوادر وقواعد الحزب والجماهير باتجاهاتها الفكرية المختلفة بأنه يعبر عنها وهذا هو حزبها المنشود… وبالتالي كان الحزب أقرب لتجمع أو تيار سياسي بحاجة للضمور المستمر للتحول لحزب عند تحديد الهوية والخيارات.

هذه الصفة مكنته لأن يتحول وفق المراحل لصياغة مقولاته وتفسيرها حسب المراحل والتحولات… إذ لا يوجد وثيقة ملزمة سوى الدستور 1947 وبعض المنطلقات النظرية 1963 القابلة للتأويل حسب المرحلة، وبهذا تمكن من تحديد ثابت ومتحول.

أي ثبات في النص وحركة في المحتوى، فالشعار والأهداف ثابتة لأنها لم تستنفذ أغراضها ولا تزال الآجيال متعلقة بها.. أما المضامين وأشكالها فهي متحركة… وإذا وجدنا كتابات وآراء كثيرة في الوحدة فقلما نجد كتابات حول الرسالة الخالدة. وبدت مفتوحة للتأويل والمناقشة.

وخير مثال التجربة الصينية الرائعة في الحزب والسلطة والجماهير… إذ نعيش منذ قرابة أربعة عقود تجربة حزبية وسياسية واقتصادية تتطلع كل الدول والآحزاب والقوى السياسية لدراستها والاستفادة منها، وأوردها للتشابه معنا، إذ لا يزال الحزب الشيوعي الصيني ممسكاً  بالسلطة وفي مؤتمره الأخير في تشرين الأول2017 أكد على استمرارية وتعزيز قيادته ودوره. والتحولات التي جرت في الصين برغبته وإرادته وخططه، والإنجازات الاقتصادية من ابداعاته وهي تجربة ذاتية تجمع بين نظامين: في الاقتصاد. النموذج الاقتصادي الحر، وفي السياسة النموذج الشيوعي الماركسي. ويجري مراجعات دائمة لأن المقولات السابقة التي لم تعد تصلح يجري تبديلها والاستعاضة عنها بالرغم أنه حزب شيوعي عقائدي.

– وشعار المؤتمر الآخير كان: (الإصلاح- الانفتاح- الاستقرار- التطوير) والحكومة تعمل تحت المراقبة الحزبية ويفخرون بأن لديهم جبهة وطنية من عشرة أحزاب تتشارك في رسم السياسات والسلطة، وإن بنية الحزب التنظيمية وصلت إلى 87 مليون منتسب موزعين على 4مليون خلية بانضباط صارم، كما اختطت فييتنام نفس الطريق وتحقق اعجازاً اقتصادياً كبيراً الآن.

وهذا المثال ينطبق علينا ويشكل سراً من أسرار قوة البعث. إذ يستطيع تجديد نفسه فكرياً في المنطلقات فيسقط تأويلات ويقيم أخرى وأهم مثال تنظيراته في مسألة الوحدة، حيث تعلقنا بها كوحدة كاملة اندماجية لدولة واحدة حتى الحركة التصحيحية، ثم أضاف لها الرئيس الراحل حافظ الأسد: وحدات فيدرالية- اتحادات- تضامن عربي- تنسيق وتكامل…

ووصل إلى حد نقد موقف الحزب في معارضته للاتحاد الهاشمي بين العراق والأردن والصراع حول تفسير العروبة على أنها عوامل مادية- تاريخ- جغرافيا- لغة- وحدة مصالح في حين أضاف الرئيس بشار الأسد إليها اليوم (العروبة بمفهومها الثقافي كوعاء حاضن) استوعب ولا يزال كل القوى الحية القومية- والدينية- والثقافية كما قدم أن العلاقة بين العروبة والإسلام تكامل وليس تناقض، والعلمانية التي يأخذ بها البعث، والدولة، والدين، والعروبة والمكونات الأخرى من حيث هي حاضن، وهذا فهم جديد مضاف يتيح للشيخ الهرم العودة إلى صباه بوجه جديد وبفهم لقواعد جديدة، وما يؤخذ على البعث من أنه ضعف أيديولوجي هو سر من أسرار قوته.

نعم قد يكون البعث استنفد النموذج في السلطة الذي سار عليه لنصف قرن، ولم يستطع أن يستلهم طموحات ورغبات الجيل الجديد الذي لم يعش التجربة السابقة، وبالتالي ما يقدمه من خطابات ومحاضرات واستجرار التجربة السابقة لا يلبي طموحه… لا بل لا يبني عليها في رسم مستقبله، فنشأ افتراق لأننا لم نحسن قراءة المتغيرات ومخاطبته وتوجيهه.

مقاربة حاولت الإجابة فيها على أسئلة رفيقي د. عمران… أتمنى أن يحالفني الصواب، وهي مفتوحة للحوار والمراجعة. لا أدعي الحقيقة، فرأيي صواب يحتمل الخطأ، وهي مراجعة نقدية من وجهة نظري، وأتمنى أن أطلع على وجهات نظر أخرى موالفة أو مخالفة لأن في ذلك غنى فكرياً وقد نعود للكتابة في الموضوع مرَّة أخرى.