تحقيقاتصحيفة البعث

مقطورة التصنيع الزراعي.. ممتلئة بالأفكار.. خارجة عن سكة التنفيذ.. ومتوقفة في محطة الدراسات

 

رغم أهمية التصنيع في تصريف فوائض الإنتاج الزراعي، واعتباره إحدى أهم الأقنية التي لابد من تطويرها وتوسيعها بغية تحقيق قيمة مضافة للسلع الزراعية، وتوفير مورد مستمر للقطع الأجنبي، إلا أن الواقع الحالي لا يبشّر بأن الأمور تسير بالشكل الصحيح نحو التصنيع الزراعي، حيث يلاحظ المتتبع بأن الخارطة الزراعية لانتشار معامل التصنيع الزراعي لا تحقق الغاية المنشودة منها، هذا عدا عن تصدير غالبية المنتجات الزراعية بشكل خام، وهذا ما يؤدي إلى تغييب الخطوات الحقيقية في مسار التصنيع الزراعي!.
سرد فضفاض
وللوقوف أكثر على الموضوع توجهنا نحو المؤسسة العامة للصناعات الغذائية “طمعاً” بجواب يرضي الهاجس الصحفي، إلا أن المهندس ناصيف الأسعد، مدير عام المؤسسة العامة للصناعات الغذائية، كان “بخيلاً” لجهة تزويدنا بمعلومة واضحة، واكتفى بشرح طويل عن ماهية التصنيع الغذائي، وصعوبته في الوقت الراهن، ومع ذلك توقع للقطاع الغذائي نمواً بعد انتهاء الحرب بمعدل أسرع من باقي القطاعات كونها رديفاً أساسياً للإنتاج الزراعي، وتطرق الأسعد إلى الإجراءات المتخذة من قبل المؤسسة للنهوض بواقع عمل الشركات، وتطويرها، وتنفيذ السياسة العامة منذ بداية 2017 وخلال العام الجاري، كالتوسع في مشاريع تعبئة المياه وتوزيعها، وزيادة الطاقة الإنتاجية فيها باعتبارها من الأنشطة الاقتصادية الرابحة، فإلى جانب وحدة مياه السن تمت دراسة إقامة معمل لتعبئة المياه في المنطقة الشمالية بمحافظة حلب “الخفسة”، وإضافة أنشطة رديفة لتعبئة المياه، وإنشاء مصنع لإنتاج البريفورم والسدادات، إضافة إلى تطوير شركتي زيوت حلب وحماة، وإعادة تشغيلها، واستيراد مادة بذور القطن وعصرها وتعبئتها، ومعالجة وضع الكونسروة عبر إضافة خطوط إنتاجية جديدة، والتوسع في صناعاتها إضافة للمربيات.

ما لهم وما عليهم
الأسعد بيّن أن حصة الصناعة من التصنيع الزراعي اقتصرت على الأجبان والألبان والكونسروة، وبعد توجيهات هيئة تخطيط الدولة انضمت في الـ 2018 تصنيع البيرة الكحولية إلى وزارة الصناعة، أما المعكرونة الطويلة والقصيرة، وإنتاج الخل الطبيعي، فهي بعهدة القطاع الخاص، إلى جانب مشروعي تفل العنب ودبس العنب اللذين تمت إعادتهما من هيئة تخطيط الدولة، لتصبح ضمن المشاريع الصغيرة والمتوسطة، لتبقى وزارة الصناعة إلى جانب ما ذكر مستمرة في السير بنفق متابعة إجراءات تنفيذ بعض المشاريع، وتوقيع مذكرات التفاهم مع الأصدقاء، ومتابعة استكمال الدراسات، والبحث عن شركاء جدد.

تبقى مقترحات
المهندس الأسعد قال إن المؤسسة، ولتحقيق سياساتها الأمثل، اقترحت عقد اجتماعات ثنائية بين وزارتي الزراعة والصناعة على مدار العام لربط الخطة الزراعية مع الخطة الصناعية، ومتابعة تحديث القوانين الناظمة لعمل القطاع العام الصناعي باتجاه منحه مزيداً من المرونة في متابعة تنفيذ الخطط الإنتاجية والاستثمارية، مع التشديد على مبدأ المحاسبة الاقتصادية للإدارات العاملة في هذا القطاع، وحل التشابكات المالية ما بين الجهات التابعة على مستوى وزارة الصناعة، وعلى مستوى باقي الجهات العامة الأخرى، بما يساعد على مشكلة السيولة المالية لدى هذه الشركات، إضافة لضرورة الاستمرار بتوصية اللجنة الاقتصادية المتضمنة الموافقة على منع استيراد المياه المعبأة لإمكانية الشركة المتخصصة من تغطية حاجة السوق الداخلية، وتأهيل وتدريب العاملين في الشركات التابعة، والتركيز على المجالات التسويقية، ومحاسبة التكاليف، والمجالات الفنية والتخصصية.

ضرورة للتغيير
مديرة التخطيط والتعاون الدولي في وزارة الصناعة المهندسة كفاح جقموق كان لها رأي آخر، حيث وجدت أن المستقبل يفترض أن يتغير دور وزارة الصناعة، ويرقى لمسمى وزارة السياسات، بغية وضع سياسة عامة للصناعة بالتنسيق مع وزارة الزراعة، والاستفادة من المواد الأولية الموجودة في البلد، ومن الميزة النسبية التي تتمتع فيها سورية ببعض المواد الأولية الموجودة التي تؤثر على عمليات الإنتاج، وعلى أساسها تقوم صناعة تصديرية تؤمن قطعاً أجنبياً، ورغم أن جقموق أكدت وجود اكتفاء ذاتي من المعامل المنتجة للأجبان والألبان والكونسروة، إلا أنها تفتقر للقدرة على المنافسة، معتبرة أن القطاع العام يمكنه الاستغناء عن بعض المواد لصالح الخاص ليعمل بها، ليهتم العام بدوره بصناعات استراتيجية تصديرية تحتاجها الدولة، شريطة أن تكون قادرة على اتخاذ قرارات وإجراءات بشأنها، وإصدار مراسيم وقوانين تحمي هذه الصناعة، وتمكنها من خرق الأسواق الخارجية، وهي خطوة يحتاجها البلد بعد انتهاء الأزمة، أما في مرحلة الإعمار– بحسب جقموق- فيحتاج البلد لاستراتيجيات جديدة، مع التركيز على الصناعات، ووضع أولويات لها، مضيفة بأن هذا الإجراء يجب ألا يشمل فقط القطاع الغذائي، بل التركيز أيضاً على الصناعات الثقيلة التي لا يستطيع القطاع الخاص العمل فيها، وتوكيل الأخير بصناعات بسيطة، على أن تأخذ الدولة دوراً فعالاً في صناعة السيارات، والصناعات الثقيلة والالكترونية، وغيرها، والتخصص بها، وأكدت المهندسة جقموق على وجود رأس مال قادر على خوض غمار تلك المشاريع، معتمدة بكلامها على كتلة الاستثمارات الهائلة التي توضع على الشركات.

أسباب
وعزت جقموق ضعف جودة الإنتاج إلى قدم خطوط الإنتاج التي تعود إلى الخمسينيات والستينيات، وهي اليوم عاجزة عن إعطاء الجودة المبتغاة للمنافسة في الأسواق، وتقادم الآلة– برأيها- يرتب تكاليف أكبر بالصيانة وسوء المنتج التي تزيد بالتالي من التكاليف، وارتفاع السعر الذي بدوره أيضاً يخرج السلعة من مضمار المنافسة، ورأت مديرة التخطيط بأن السياسات المذكورة كي تتحقق تحتاج إلى تشبيك مباشر مع وزارة الزراعة، ودراسة فعالة لطريقة التسويق كشكل وحجم ونوع العبوة، والتغليف، وكل ما يؤثر على ذوق المستهلك، إلى جانب دراسة السوق المستهدف، وهي خطوات يجب أن تتم قبل عملية التصنيع والقرار، بالتوازي مع دراسة كيفية عصر وتعبئة زيت الزيتون في مؤتمرات الاستثمار المقبلة لاحتوائه على ميزات خاصة، مع ضرورة توقيع عقد مع دول للتأكد من أنها ستستورد الزيت، أو غيره من المعامل التي قد تنشأ بعد التوجه للشركاء في القطاعات الخاصة، في وقت أوضحت فيه أن القطاع العام مقيد بقوانين تمنعه من إنشاء شراكات، وبما أن “الصناعة” تمتلك مجموعة من الشركات المتوقفة عن العمل، فإنها، في حال طرحها على الاستثمار بما يتناسب وحاجتها، تمكنت من الحصول على خطوط إنتاج جديدة، وحافظت على العمالة، وحققت عائداً مالياً يعود لشركات أخرى.

قادرون ولكن!
وأكدت مديرة التخطيط أن سورية قادرة على التصنيع الغذائي لأنها تمتلك المادة الأولية، إلا أن المشكلة تكمن بوضع الأولويات، وتوزيع الأدوار ما بين القطاعين العام والخاص، والعمل بحرية ضمن قانون واحد، ووضع خارطة زراعية للمرحلة المقبلة، والتنسيق بين الوزارات، لاسيما الزراعة، ووضع روزنامة لأهم المحاصيل التي يحتاجها البلد لخمس سنوات، إضافة للتشبيك بينهما لإنشاء معامل للتصنيع الغذائي في مناطق مناسبة، ونوّهت إلى ضرورة أخذ التغيير الهيكلي بعين الاعتبار، والاعتماد على الزراعة، ولم تخف جقموق الفقر الواضح بالرؤية الصناعية المستقبلية والمتميزة، وما تعانيه المنشآت من ترهل إداري، ومتابعة للمشاريع!.

وللمختصين رأي
خبير التصنيع الزراعي عبد الرحمن قرنفلة اعتبر الانتقال إلى مرحلة التصنيع الزراعي أمراً حتمياً وضرورياً لإنقاذ القطاع الزراعي من أزمات فوائض الإنتاج، ولتنمية التجارة والصناعة، ودعم القطاع المالي، وقطاع الخدمات المساندة، وبالنسبة لتصدير المواد الزراعية الخام قال: من المؤكد اقتصادياً أن تصنيع المنتجات الزراعية يمنحها قيمة مضافة، ويساهم في تشغيل يد عاملة محلية، ويحقق موارد مالية بالقطع الأجنبي، لذلك نحن لسنا مع تصدير أية مادة زراعية خام إن كان بالإمكان تصنيعها محلياً وبشكل يحقق قيمة مضافة، ويساهم في تسويق المادة المصنعة خارجياً، ورأى أن وضع خارطة لنشر وحدات التصنيع الزراعي على مساحة الوطن أمر بالغ الأهمية، بحيث تتناسب المصانع مع المحاصيل المنتجة في مناطق إنشائها، ولعل مراجعة مواقع مصانع الصناعات الزراعية الراهنة تدعو للاستغراب– والقول لقرنفلة- إذ ليس من المنطق الاقتصادي نقل محصول البندورة من الحسكة لتصنيعه في دمشق، أو نقل الحليب من حمص وحماة إلى دمشق، أو من الرقة إلى حلب، وكذلك نقل الأقطان من الحسكة والرقة ودير الزور إلى حلب لتصنيعها، لذلك لابد من خارطة لتوزيع المصانع وفق مناطق الإنتاج، وبيّن أن المطلوب من الحكومة في الوقت الراهن حزمة من الإجراءات تبدأ من إنجاز دراسة حول استراتيجية التصنيع الزراعي، ووضع خطط قصيرة ومتوسطة وطويلة الأجل لنشر مصانع للصناعات الزراعية في مناطق الإنتاج، ودراسة الأسواق الخارجية، وتحديد مواصفات المنتجات الزراعية المصنعة والمطلوبة في تلك الأسواق، إضافة لإقامة معارض خارجية متخصصة للصناعات الزراعية السورية.

وجهة نظر
أثبتت التجارب التي مر بها الاقتصاد السوري أن حرف بوصلة الاقتصاد عن أولوية الزراعة لم يأت بنتائج ملبية لطموحات البلاد، حيث يعتمد الاقتصاد السوري بشكل كبير على القطاع الزراعي، إذ إن الزراعة– بحسب التقارير- توفر يداً عاملة، وتوظفها، ويعمل فيها نحو أكثر من 7 ملايين عامل وعاملة، ويشكّلون 14% من إجمالي القوة العاملة بالبلاد، وتعمل في التصنيع الزراعي نسبة كبيرة من السكان، وهو يعتمد على منتجات القطاع الزراعي، ومن هنا لابد من الأخذ بعين الاعتبار ضرورة أن تسير مقطورة الصناعة على عجلتين متوازيتين، تكون مصلحة المواطن والبلد في الدرجة الأولى، والمعنيون هم الأدرى كيف يتم ذلك لا نحن!.

نجوى عيدة

.