دراساتصحيفة البعث

متى تغلغلت “الإسلاموفوبيا” في النظام القانوني الأمريكي؟

 

ترجمة وإعداد: علاء العطار

في مطلع القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، نُقل مئات الآلاف من المسلمين الأفارقة عنوة إلى الولايات المتحدة لاستعبادهم، وقام أحدهم، وهو عمر بن سعيد، من فوتا تورو في السنغال المعاصرة، بتسجيل رحلته وحياته في ظل الاستعباد بمخطوط قصير يتألف من 15 صفحة، كتب فيه: “أسرني الأشرار وباعوني.. وأبحرنا في البحر الكبير شهراً ونصف الشهر إلى مكان يدعونه تشارلستون في الأرض المسيحية، ووقعتُ بين يدي رجل ضئيل الحجم، ضعيف وخبيث، لا يخاف الله على الإطلاق”.

اعتنق عمر بن سعيد المسيحية بعد أن نُقل بالإكراه من غرب أفريقيا إلى الولايات المتحدة التي كانت آنذاك بلداً حديث العهد، لكن سيرته الذاتية التي كتبها تُقدم دليلاً على أنه استمر في ممارسة شعائر الإسلام، مثلما كان يفعل في وطنه، حتى أدركته المنية، وكتب الناقد والباحث القانوني خالد بيضون في كتابه الجديد “الإسلاموفوبيا” الأمريكية: “كان اعتناقه المسيحية يحميه من العقاب، وهو ما مكّنه من الاستمرار بإقامة شعائر الإسلام، وهو دينه الأم”.

خرافة “الإسلاموفوبيا”

ويتتبع بيضون بدايات “الإسلاموفوبيا” البنيوية في الولايات المتحدة إلى قصة عمر بن سعيد، ليدحض الخرافة السائدة بأنها ظاهرة جديدة لم تحدث إلا بعد 11 أيلول، وتكثفت مع وصول ترامب إلى المسرح السياسي، ويُجادل أنه طوال فترة وجود الولايات المتحدة، كان هناك دائماً إطار قانوني يُعرّف الإسلام والهوية الإسلامية على أنهما غير متوافقين مع الطبيعة الأمريكية، ويستند بيضون إلى أعمال مختلف المنظرين، بمن فيهم ادوارد سعيد، وكيمبرلي كرينشو، ليُحدد “الإسلاموفوبيا” كظاهرة بنيوية ليست متجذرة ببساطة في ممارسات الأفراد التي تُحرض على الكراهية، وتؤثر على المسلمين الذين يحملون هويات متعددة، بطرق مختلفة، كالمسلمين السود.

وهناك الكثير من الأعمال البارزة الأخرى التي تتحدث عن “الإسلاموفوبيا”، كأعمال اريك لَفْ، ومصطفى بيومي، لكن بيضون يُركز على نطاق وتأثير تشريع “الحرب على الإرهاب” المحلي من حيث طريقة إلصاقه هوية عنصرية بالمسلمين، وتحويله الحياة اليومية داخل المجتمعات الإسلامية، وما يضيفه إلى “الإسلاموفوبيا” الأمريكية هو الإصطلاح واللغة ليصف طريقة الدولة في تشويه صورة المسلمين، إضافة إلى السياق القانوني والتاريخي الضروري لفهم عمق “الإسلاموفوبيا” البنيوية، والأدوات اللازمة لتفكيكها.

يبدأ بيضون كتابه بتعريف “الإسلاموفوبيا” على أنها ظاهرة متجذرة في قانون الدولة وسياستها، وأنها افتراض بأن الإسلام عنيف وغير قابل للانخراط في المجتمع، وميّال للإرهاب، والقانون وسياسة الدولة يدفعان إلى هذا الافتراض، وبما أن “الإسلاموفوبيا” استحوذت على الكثير من الاهتمام في العامين الماضيين، فقد وصفت بأنها شكل من أشكال العداء أو الخوف الذي يحمله الأفراد، ويُعتقد أنه أمر غير عقلاني، أطلق العنان له أفراد يمثلون المجتمع، وليس الدولة وما تقوم به، مما يبرئ الدولة من أي دور في توسيع أو تكثيف “الإسلاموفوبيا”.

ويقول بيضون: “بصفتي باحث قانون، أمضيت الكثير من الوقت في التفكير في “الإسلاموفوبيا” وسالفها، أعني الاستشراق، وهذان القالبان النمطيان اللذان انتشرا على نطاق واسع لدى الناس ولدى النقاد الإعلاميين والباحثين وغيرهم، يتحدّران من القانون والسياسة، هذا هو منشؤهما، كما أن أحد الطروحات الأساسية للكتاب هو أن قانون الدولة وسياستها هما اللذان بدأا ونشرا هذين المجازين السلبيين، والمجاز الأساسي هو ربط الهوية الإسلامية باحتمالية الإرهاب”.

ويشرح بيضون بعض أشكال “الإسلاموفوبيا”:

– “الإسلاموفوبيا” البنيوية: هي في الأساس طريقة تأثير السياسة التي اعتمدتها الدولة، كقانون مكافحة الإرهاب، ونظام الأمن القومي المتعلق بتسجيل حركة الدخول والخروج، ومكافحة التطرف المصحوب بالعنف، وحظر السفر، وحتى حملة “إن رأيت شيئاً، قل شيئاً”، كلها كانت أساسية في تقديم الحرب على الإرهاب، وكلها مبنية على الافتراض التأسيسي الذي يربط الهوية الإسلامية باحتمالية التطرف داخل البلاد.

– “الإسلاموفوبيا” الخاصة: وهي شكل يُغطي تعاريف أوسع للإسلاموفوبيا، وتركز على ما يفعله الأفراد إزاء اعتناق أفكار سلبية معينة عن المسلمين واستهدافهم ومهاجمتهم، ونحن نرى ذلك من خلال ارتفاع معدل جرائم الكراهية، والهجمات على المسلمين البارزين.

– “الإسلاموفوبيا” الديالكتيكية: هي التي تربط بين النوعين السابقين، وهي الفكرة القائلة بأن القانون والسياسة اللذين يصيغان “الإسلاموفوبيا” البنيوية ينقلان رسائل قوية إلى الناس، فإذا نُقلت رسالة سياسات الحرب على الإرهاب بشكل فعّال، ومفادها أن جميع المسلمين مشبوهون، ويجب أن يخضعوا لمراقبة شديدة، فسيتولد شعور لدى المواطنين بأن هؤلاء أشخاص سيئون ومخيفون، وأنها تُجيز هذه الصور النمطية السلبية المنتشرة في المجتمع، والتي تروج لها وسائل الإعلام والسينما، والديالكتيكية هي ما تستخدمه سياسة الدولة لتُجيز تلك الصور النمطية للمسلمين، وأثناء الأزمات، فإن الخطاب الذي ينبع من أشخاص كترامب يُعزّز “الإسلاموفوبيا” الخاصة.

قانون التجنس

وبالنسبة لحال المهاجرين المسلمين والمسيحيين القادمين من الشرق الأوسط في بداية القرن العشرين، من الجدير الإشارة إلى أنه من عام 1790 إلى عام 1952 كان هناك قانون يسمى قانون التجنس، ويعتبر “بياض البشرة” شرطاً مسبقاً للحصول على الجنسية، ما يعني أنك لو كنت مهاجراً من أي مكان في العالم وترغب في الحصول على الجنسية، فعليك أن تثبت لقاضي المحكمة المدنية أنك أبيض، وشكّل هذا معضلة ليس للمسلمين وحسب، وإنما لأي شخص قدِم من “الشرق”، فإن كنت مسيحياً قادماً من لبنان أو سورية، أو مسيحياً قبطياً من مصر، أو كلدانياً، أو آشورياً من العراق، وحتى لو كنت يهودياً قادماً من المغرب، يتم افتراض أنك مسلم، وكان يَسِم الهوية المسلمة بسمة عنصرية، وكانت المحاكم تتبنى نظرة الاستشراق، وبذلك تحول الاستشراق من الخطاب النظري إلى ظاهرة قانونية، لأنه أثر على طريقة نظر قضاة المحاكم المدنية إلى أولئك المهاجرين الآتين من المنطقة المعروفة باسم العالم الإسلامي، أما بالنسبة للمسيحيين العرب، فكان عليهم الإفراط في إبراز هويتهم المسيحية لإقناع القضاة بأنهم ليسوا مسلمين حتى يُنظر إليهم على أنهم من العرق الأبيض بموجب القانون.

كان الدين أساساً لتشكيل الهوية العرقية، والمسيحية كانت ركناً أساسياً في انتسابك للعرق الأبيض، لذا أمست المسيحية بوابة يصبح من خلالها المسيحيون العرب بِيْضاً، وفي عام 1915، في قضية “داو” ضد الولايات المتحدة قضت المحكمة بأن المسيحيين السوريين تحديداً هم بيْض بموجب القانون، لكن المسلمين لم يتمكنوا من الحصول على الجنسية، لأن الإسلام صُوِّر كنقيض عرقي وحضاري “للبياض” والهوية الأمريكية.

وتعرض أزمة احتجاز الرهائن في إيران عام 1979 المراحل الأولى لتطور “الإسلاموفوبيا” الحديثة، حيث استغلتها وسائل الإعلام الأمريكية في تأطير الإسلام والمسلمين، وكانت تحولاً عن طريقة التفكير بالصور والأفكار التي انبعثت من الاستشراق الكلاسيكي، والتي كانت تُصوّر المسلمين على أنهم همج، ولكنهم لم يكونوا يشكّلون تهديداً مباشراً للأمن القومي بالطريقة التي نتخيلها اليوم، كما أدى الأثر الهائل للأزمة، وتلك اللحظة السياسية إلى تغلغل صورة التهديد الذي يُشكله الذكور المسلمون أصحاب اللحى والبشرة السمراء، والذي أصبح النموذج الأولي الحديث لطريقة تفكيرنا في الإرهابي المسلم.

وأثناء تفجير مدينة أوكلاهوما عام 1995، وصفت التقارير الفورية من صحفيين بارزين يحظون باحترام كبير، التفجير بأنه تهديد إسلامي، ولكن تبيّن أن الجاني كان شاباً أبيض، وهو تيموثي ماكفاي، تآمر مع شباب بيض آخرين، وهذا يُبيّن أن تلك التقارير كانت تفترض أن المسلمين هم المتهمون الرئيسيون، وحتى عندما لا تكون لهم صلة بذلك، فإن استجابة الدولة ستتوجه نحو المسلمين تحديداً.

التصنيفات العنصرية في أمريكا

إن بُنية التصنيفات العنصرية في الولايات المتحدة واضحة جداً، فقد قُدِّم العرق الأسود على أنه النقيض المباشر للعرق الأبيض، وأصبح “السواد” مرادفاً للعبودية، وتمت صياغته بشكل يُصوّر السود كممتلكات وليس ككائنات بشرية، وكانت نسبة كبيرة من الأفارقة المُستعبدين مسلمين في الواقع، واستمروا في ممارسة شعائر الإسلام في ظل العبودية.

وأصبح السواد هوية بحد ذاته، وجُرّد من الدِّيْن، وفي الوقت نفسه، تمت صياغة هوية إسلامية من خلال عدسة الاستشراق، لكون الإسلام محصوراً بالمنطقة العربية ومنطقة الشرق الأوسط بشكل رئيسي، وأُلصقت صبغة عنصرية بالهوية الإسلامية، وتمت المتاجرة بأجساد السود، وكان هذان التركيبان متناقضين، فلكي تكون مسلماً، عليك أن تكون عربياً أو شرق أوسطي، لذا كانت للمسلم الأسود هوية متناقضة وفقاً للتركيبة القانونية للهوية الإسلامية والهوية السوداء.

واستمرت هذه التصورات والأُطر إلى يومنا هذا، فمعظم الأمريكيين ينظرون إلى المسلمين السود كجزء من المسلمين، وليس كأي نوع آخر من المسلمين، وهذا مرتبط بتلك التسمية السياسية المحددة، وينبع من هذين التركيبين التأسيسيين للهويتين الإسلامية والسوداء.

ونحن قبالة مرحلة جديدة من “الإسلاموفوبيا”، حيث أطلق أمثال دونالد ترامب العنان للإسلاموفوبيا، وأبدا ترامب ذلك بوقاحة بسنّه قانون حظر دخول المسلمين، وقوله أموراً مثل “الإسلام يكرهنا”، وهذه الكلمات جديدة، وحجم الخطابة غير مسبوق في العصر الحديث، لكن الأفكار الضمنية والآليات البنيوية تعمل عملها بشكل فعّال، وقد خَلَفَ ترامب رئيسين كانا منغمسين في متابعة “الحرب على الإرهاب”، ويكمن الفرق بينه وبينهما في أنه يُصعّد الأمور إلى درجة خطيرة، إلا أنه لم يُنشئ بُنى جديدة، فقد أنشأ بوش وزارة الأمن القومي، وكثّف أوباما مراقبة تجمعات المسلمين عبر إنشاء برنامج مكافحة التطرف المصحوب بالعنف في عام 2011.

ترامب: كل المسلمين سيئون

كما أن الفارق الأساسي بين ترامب والرئيسين السابقين هو نوع السرد الذي يُبثّ للجمهور، فجورج بوش كان متشبثاً كثيراً بثنائية “صراع الحضارتين”، وصاغها على شكل ثنائية “مسلم صالح” مقابل “مسلم طالح”، وبالنسبة له، هناك الإرهابيون، وهناك “المسلمون الصالحون”، أما أوباما فقد تبنى خطاباً أقل حدة، ولكن لم يكن هناك انسجام في رسائله التي تبدو جيدة جداً، والسياسات التي استخدمها لاتزال متزاوجة مع فكرة أن الهوية الإسلامية مرتبطة بإمكانية التطرف، وبذلك تحول برنامج مكافحة التطرف المصحوب بالعنف إلى برنامج مكافحة الإرهاب، وجاء ترامب ليتخلص من كل ذلك، فهو لم يتبن ثنائية المسلم الصالح/ المسلم الطالح، فبالنسبة له، كل المسلمين سيئون، بل إنه تبنى شكلاً أكثر مغالاة من أشكال الصدام بين الحضارتين، فلا يوجد مسلمون صالحون إطلاقاً عند ترامب، وربما لا وجود للمسلمين الصالحين، بالنسبة له، إلا في أماكن مثل السعودية التي تتمتع بنوع من القيمة الاقتصادية والسياسية.

وختاماً، لكي نفكك “الإسلاموفوبيا” البنيوية ونقلصها، علينا معالجتها بالطريقة نفسها لتفكيك وتقليص أشكال أخرى من العنصرية ، ومن المهم ربط “الإسلاموفوبيا” بمشروع تفوق العرق الأبيض الأوسع، حيث يمكننا أن نرى هذا الارتباط عن كثب في حملة ترامب نفسها، فعبارة “لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى” هي نداء خفي لاستعادة تفوق العرق الأبيض، وهي مرتبطة بفكرة حظر دخول المسلمين ومنع توسيع الإسلام.

يقول بيضون: “الخطوة الأولى هي الاعتراف بعدم وجود فهم لماهية “الإسلاموفوبيا”، وعدم وجود فهم يربطها بالقوانين والسياسات وبُنى الدولة، والخطوة الثانية هي التفكير في استراتيجية حقيقية تمكننا من هدم هذه السياسات، بل والأكثر من ذلك، هدم العقيدة الرئيسية التي تمكن هذه السياسات من العمل، وعلينا هزيمة فكرة ربط الهوية الإسلامية بالإرهاب، والبراهين التي تمكننا من القيام بذلك موجودة، فما علينا سوى النظر إلى أولئك الذين أطلقوا النار على مجموعة من الناس، والذين يشكّلون أكبر خطر ديمغرافي في الولايات المتحدة، لنجد أنهم ليسوا مسلمين، كما يجب أن نُسلّح أنفسنا بالحجج التي تنتقد السياسات القائمة حالياً، وإن استطعنا القيام بذلك، فعندئذ يمكننا وقف ما تقوم به الدولة من دعم لتلك الصور النمطية السلبية التي يتم اعتناقها على نطاق واسع في المجتمع”.