دراساتصحيفة البعث

من سيحاسب الحكومة الألمانية على مخالفة دستور بلادها؟!

 

د. مازن المغربي

كاتب من سورية

قبل سنة من الآن توفي مستشار ألمانيا الاتحادية السابق هلموت كول الذي تولى المنصب طوال ست عشرة سنة، من 1982 وحتى 1998، أي أنه فاز  في الانتخابات أربع دورات متتالية، وكان العراب الحقيقي للمستشارة الحالية أنجيلا ميركل التي كررت إنجاز المستشار كول، وفازت بولاية رابعة في الانتخابات الأخيرة، وشكّلت حكومة ائتلاف مع الحزب الاشتراكي الديمقراطي ضمن إطار استعداداتها لمنح ألمانيا دوراً جديداً على المسرح الدولي يتناسب مع قوة الاقتصاد الألماني.

رعاية كول لميركل

شهد عهد هلموت كول إعادة توحيد ألمانيا، وتعبير إعادة التوحيد فيه الكثير من الشطط، حيث تمت في الواقع إعادة هيكلة المقاطعات التي شكّلت في الماضي جمهورية ألمانيا الديمقراطية، ودمجها بطريقة مدروسة سعت لمحو تجربة مميزة في إطار أنظمة الديمقراطيات الشعبية.. كانت أنجيلا ميركل من مواطني جمهورية ألمانيا الديمقراطية، صحيح أنها من مواليد مدينة هامبورغ في ألمانيا الغربية، لكن والدها قرر الانتقال إلى جمهورية ألمانيا الديمقراطية، حيث ترعرعت ميركل، ودرست في جامعة “لايبزيغ”، وحصلت على شهادة الدكتوراه في علوم الفيزياء، وتمكنت من الفوز بمقعد في البرلمان الاتحادي من خلال ترشّحها ضمن قائمة حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي الذي انضمت إليه عام 1989، وكان تحت قيادة هلموت كول الذي أسبغ رعايته على الوجه الجديد، وفاجأ الرأي العام باختيار ميركل عام 1990، لتكون وزيرة لشؤون الشباب والمرأة، وبعد أربع سنوات أسند إليها حقيبة البيئة، احتفظت ميركل بالجميل وأسندت لراعيها السابق منصباً فخرياً في قيادة الحزب الديمقراطي المسيحي، لكنها تخلت عنه بعد ثبوت تورطه في مخالفات مالية أجبرته على دفع مبالغ طائلة، وكانت الصدمة شديدة على عائلة المستشار السابق، وبشكل خاص على زوجته التي انتحرت تحت ضغط الفضيحة، ولم يتردد ابن الفقيدة في تحميل ميركل مسؤولية انتحار والدته.

صعود ميركل

لم يأت صعود ميركل من فراغ، فهي من العناصر التي ارتبطت بالمنتديات الدولية غير المنتخبة التي تتحكم فعلياً بمصير العالم، وتسعى بكل جهدها لإعادة تقسيم العالم وبناء نظام دولي جديد مغاير للنظام الدولي الذي وضعت أسسه في اجتماع يالطا بين ستالين، وأيزنهاور، وتشرشل، ولم يكن فيه مكان لا لفرنسا وجنرالها الحالم بعظمة بلاده الماضية، ولا لألمانيا المهزومة والمدمرة، ضمن هذا السياق تم وضع شرعة الأمم المتحدة لتكون بديلاً عن ميثاق عصبة الأمم التي عجزت عن منع نشوب الحرب العالمية الثانية، ومنحت الدول المنتصرة مقاعد دائمة في مجلس الأمن الدولي، وحق النقض عند العجز عن التوافق، انقسم مجلس الأمن إلى معسكرين: معسكر الاتحاد السوفييتي، ومعسكر آخر بزعامة واشنطن ضم بريطانيا، وفرنسا، والصين الوطنية، أو “فورموزا”، تلك الجزيرة المحاذية للبر الصيني والتي كانت آخر معاقل حكومة “الكيومنتاغ” التي طردها ماوتسي تونغ، وأقام على أنقاضها جمهورية الصين الشعبية.

لكن تطور الخلاف الصيني السوفييتي دفع واشنطن لتغيير قواعد اللعبة من خلال منح جمهورية الصين الشعبية مقعداً دائماً في مجلس الأمن في الخامس والعشرين من تشرين الأول 1971، وتم طرد تايوان من المقعد الذي شغلته منذ تأسيس منظمة الأمم المتحدة عام 1945.

وترى ألمانيا أن من حقها القيام بدور أكبر في مسألة إدارة شؤون العالم التي تعني في حقيقة الأمر المشاركة في عملية نهب موارد الكوكب وسكانه، وتدرك الحكومة الألمانية أن هذا يتطلب المزاوجة بين القوة الفظة والقوة الناعمة، وفيما يتعلق بالأولى باشرت حكومة ميركل المكونة من تحالف عريض عمليات إعادة تأهيل الجيش الألماني عن طريق رصد ميزانية عسكرية ضخمة.

ثوابت المستشارة

ولا يعتبر هذا بالأمر الجديد، بل هو من ثوابت سياسات المستشارة ميركل، ففي عام 2016 أقرت حكومة جمهورية ألمانيا الاتحادية مشروعاً يتعلق بالإنفاق العسكري خلال السنوات الأربع القادمة، بهدف حماية أمن البلاد على المستويين الداخلي والخارجي، وفق تصريح وزير المالية فولفغانغ شويبليه، المنتمي إلى حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، طبعاً دون أي تفسير لطبيعة المخاطر الخارجية التي تهدد أمن ألمانيا.

وتضمنت ميزانية عام 2016رفع مخصصات وزارة الدفاع بنسبة 14.3% ، وتخصيص مبلغ 9.4 مليار يورو لإعادة تسليح الجيش، لكن اللافت للنظر هو تخصيص مليار يورو للعمليات العسكرية الخارجية، وترافق هذا بالمضي قدماً في تعزيز الطابع البوليسي للدولة من خلال رفع مخصصات الاستخبارات والأمن بمبلغ 2.1 مليار يورو بحلول عام 2020.

ويبدو من تكرار تصريحات ميركل الموجهة ضد روسيا أن هناك نية محسومة للتصعيد السياسي والعسكري ضد روسيا وفق ما ورد في “الكتاب الأبيض” الخاص بالجيش الألماني الذي صدر عام 2016، وحدد الأولويات الاستراتيجية للجيش الألماني، بما في ذلك استعداد الجيش للتدخل لمواجهة أي إخلال بالنظام الدولي العالمي، وهذه هي الذريعة التي استخدمتها واشنطن وحلفاؤها لتدمير يوغسلافيا وتقسيمها، ولغزو ليبيا، ولاجتياح العراق، وللحرب العدوانية ضد سورية، وهي التي تستخدم حالياً لتغطية الحملة الهمجية ضد اليمن.

وفعلاً شارك الجيش الألماني في الحرب ضد سورية من خلال تقديم الدعم اللوجستي والاستخباراتي للجماعات الإرهابية المسلحة، كما يشارك حالياً في الهجوم على ميناء الحديدة اليمني، ففي واقع الأمر تستخدم قوات الغزو السعودية والإماراتية أسلحة وذخائر ألمانية الصنع، حيث إن الدولتين صارتا، منذ عام 2008، من أهم زبائن الصناعة العسكرية الألمانية، وبلغت قيمة الأسلحة والمعدات الحربية التي استلمها البلدان بموافقة الحكومة الألمانية خلال العام الماضي قرابة الخمسمئة مليون يورو، كما نفذ الجيش الألماني تدريبات مشتركة مع جيشي السعودية والإمارات، وتجاوزت  قيمة صادرات الأسلحة الألمانية إلى السعودية بين 2008-2016 ثلاثة مليارات يورو، في حين استوردت الإمارات خلال الفترة ذاتها معدات وأسلحة ألمانية بقيمة تقارب الملياري يورو، وتستخدم القوات السعودية حوامات ألمانية الصنع، في حين تستخدم الإمارات ناقلات جنود من طراز فوكس ألمانية الصنع، أي أن ألمانيا تشارك بشكل فعال في الهجوم الهمجي غير المبرر ضد شعب مسالم لم يطلب سوى العيش بكرامة ضمن حدود بلاده المعترف بها من قبل النظام الدولي العالمي التي تدعي ألمانيا حرصها عليه، وفي هذا السياق يجب أن نتوقف عند نقطة هامة تتعلق بمدى توافق ممارسات الحكومة الألمانية مع نصوص الدستور الألماني الذي تمت صياغته في إطار توجه شعبي عام معارض للنزعة العسكرية، حيث نصت المادة “87 أ” على حصر مهام الجيش الألماني بالعمليات الدفاعية.

القوة الناعمة

أما فيما يتعلق بالقوة الناعمة فقد سعت جمهورية ألمانيا الاتحادية  لتغيير قواعد اللعبة من خلال المطالبة بالحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن الدولي بوصفه المنتدى السياسي الأهم، وتعزز هذا التوجه مع ميل حكومة الولايات المتحدة إلى تهميش دور مجلس الأمن، مدفوعة برغبتها بالانفراد بالقرارات بعد أن تبيّن أن سلاح حق النقض صار مربكاً بعد أن أجاد الروس والصينيون استخدامه، ونظراً لواقع الدور القيادي لألمانيا ضمن إطار الاتحاد الأوروبي، وحقيقة أن ألمانيا تحتل المرتبة الرابعة في قائمة ممولي منظمة الأمم المتحدة، رأت ألمانيا أن الفرصة صارت مناسبة لطرح فكرة توسيع عدد الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الداخلي بهدف منع حدوث فراغ نتيجة عزوف واشنطن عن القيام بدور نشيط فيه، وفق ما نستشف من المقابلة التي أجرتها مجلة ديرشبيغل الألمانية في  شهر كانون الثاني من هذا العام مع  سيغمار غابرييل وزير الخارجية وقتها، حيث قال بوضوح بأن بلاده لن تسمح بحدوث مثل هذا الفراغ في مجلس الأمن، ومن جهة أخرى أوضح هايكو ماس وزير الخارجية الحالي المنتمي إلى الحزب الاشتراكي الديمقراطي بأن ألمانيا لن تتخلى عن مسؤولياتها العالمية، وهذا يتضمن بشكل خاص التصدي للسياسة الروسية، وهو صرح بوضوح بأن الأمم المتحدة تمثّل حجر زاوية النظام الدولي، وضمن هذا السياق يسعى وزير خارجية ألمانيا لتنفيذ خطوة أولية من خلال انتخاب ألمانيا لشغل منصب عضو غير دائم في مجلس الأمن في ولاية المجلس  القادمة التي تبدأ في شهر كانون الثاني 2019 وتستمر لمدة عامين.

فضائح الاستخبارات

لكن من الوارد أن تؤثر فضيحة قيام جهاز الاستخبارات الخارجية الألمانية بالتجسس على نشاطات هيئات تابعة للأمم المتحدة على حظوظ ألمانيا في نيل الدعم الكافي للفوز بمقعد في أعلى هيئة دولية، وإذا تذكرنا أن ميثاق الأمم المتحدة ينص على احترام الدول الأعضاء لسيادة المنظمة الدولية، تكون حكومة برلين قد انتهكت أصول التعامل مع مكاتب المنظمة الدولية من خلال قيامها بالتجسس على أكثر من 2000 عنوان مرتبط بالمنظمة الدولية في فيينا خلال الفترة الممتدة من 1999 إلى 2006، وفق ما كشفت عنه فضيحة التحقيقات التي نشرت في تقرير رسمي، وبيّنت أن التجسس شمل مكتب المستشار الألماني، و 128 رقم هاتف مرتبطة بعمل المنظمة الدولية، وهذا الموضوع لم يعد سراً بعد أن تم تسريبه عام 2015، وتبيّن أن برنامج التجسس قائم بالتعاون مع وكالة الأمن القومي في الولايات المتحدة التي تمتلك  حواسيب عملاقة، وتشرف على برنامج الرقابة الشاملة “ايكيلون” الذي يتجسس عملياً على كل اتصالات العالم، وهنا أيضاً انتهكت الحكومة الألمانية نصوص دستور البلاد الذي نصت  الفقرة الأولى من مادته العاشرة على عدم جواز انتهاك سرية الاتصالات والرسائل، ولكن يبدو أن زمن الالتزام بمواد الدستور وبالمواثيق الدولية ولى إلى غير رجعة، حيث تتحول كل أنظمة الديمقراطيات الغربية إلى أنظمة شمولية بكل ما يحمله التعبير من معنى، فقد تمت السيطرة على عقول شعوب بلدان دول الديمقراطيات الغربية من خلال نظام التعليم، ومن خلال وسائل الإعلام، حيث يقول نعوم شومسكي بأن كل نظام التعليم والتدريب هو بمثابة مصفاة متطورة تستبعد الناس ذوي الميول المستقلة الذين يفكرون بالاعتماد على عقولهم، والذين لا يعرفون أن يرضخوا بذريعة أنهم يخلون بعمل المؤسسات.

كما أن كل وسائل الإعلام الجماهيري مرتبطة بالمؤسسات المالية الضخمة، وهي لا تتمتع سوى بهامش ضيق من الحرية، وتنشر خطاباً موحداً، وإن اختلفت مفرداته، حيث يتم إعداد الرأي العام لتقبل كل ما تقوم به الحكومة، وضمن هذا الإطار يمكن أن نفهم انضمام حكومة ألمانيا للتحالف العسكري الأوروبي الجديد الذي أعلن عنه في الخامس والعشرين من شهر حزيران 2018 تحت اسم مبادرة التدخل الأوروبية تطبيقاً للفكرة التي سبق أن طرحها الرئيس الفرنسي للالتفاف على العوائق التي تمنع الاتحاد الأوروبي من القيام بمبادرات عسكرية يفترض أن يتم التوافق عليها بين الدول الأعضاء، وهكذا يبدأ اكتمال صورة الدور الجديد للجيش الألماني في المساهمة بحماية النظام العالمي عبر التدخل العسكري السريع، ودون الحاجة للرجوع إلى المؤسسة التشريعية تحت ذريعة أن النقاشات البرلمانية الطويلة تعيق إمكانية اتخاذ القرار الحاسم في الوقت المناسب.