رأيصحيفة البعث

“نصيب” وما بعدها

 

يعرف الجميع في الداخل والخارج أن مرحلة سورية وإقليمية ودولية جديدة تنفتح هذه الأيام من بوابة معبر “نصيب” وما بعده، لسبب واضح يتمثّل بالحمولة الرمزية الكبرى التي حملتها درعا و”نصيبها” في الحرب الدائرة في سورية وعليها، لتفتتح بعدها، وبسببها، وكنتيجة للتشابكات والتعقيدات الهائلة للمعركة ككل وللأطراف المشاركة فيها، أنواعاً جديدة من المعارك ستدور رحاها بالتوازي مع ما تبقى من معارك الميدان، وهي معارك أجملها السيد الرئيس في لقائه أمس مع رجال الدبلوماسية السورية بمعركة إعادة الإعمار، ومعركة مكافحة الفساد، ومعركة تعزيز اللحمة الداخلية عبر المضي في حوار مكثّف بين السوريين، ومعركة عودة اللاجئين الذين غادروا سورية هرباً من الإرهاب، ومعركة تنشيط المسار السياسي الذي تعرقله بعض الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية.

والحال فإن الناظر إلى هذه المعارك يعرف أنها مترابطة ومتلازمة، بمعنى أن كلاً منها سبب ونتيجة في الوقت ذاته للبقية، فلا معنى، ولا إمكانية، للانتصار في إحداها بمعزل عن النجاح في بقيتها، فلا يمكن مثلاً النجاح في معركة إعادة الإعمار، وهذه لها شق خارجي، دون النجاح في معركة مكافحة الفساد بشقها الداخلي الصرف، أو النجاح في الحوار السوري السوري، كما أن إعادة اللاجئين بالكامل غير ممكنة دون النجاح في إعادة الإعمار.. وهكذا دواليك.

بيد أن الوقائع العملية تكشف أن الراهن في الأمر هو معركتا إعادة الإعمار والحوار الداخلي فيما بين السوريين، وتلك معركتان تفرض أولويتهما عوامل عدة، ربما أهمها أنهما سيكونان معاً سمة الحرب وصبغتها في طورها المقبل، لكن الوقائع ذاتها تثبت أن النجاح فيهما مرتبط بالنجاح في معركة مكافحة الفساد، ارتباط السبب بالنتيجة، والعلة بالمعلول، وليس أكثر من الدلائل على صحة ما سبق، فالجميع يعرف أن الدمار الكبير الذي لحق بالبنية التحتية السورية تمّ قسم كبير منه بقرار واع من المخربين ورعاتهم، لاستخدام عملية إعادة الإعمار لاحقاً، ودولاراتها الهائلة، كأداة تدخل ناجعة في البنية السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية السورية المستقبلية، فيما الدخول على خط الحوار السوري – مباشرة أو عبر “أحصنة طروادة” – حول القضايا المستقبلية، كان ديناً وديدن الخارج منذ اللحظة الأولى، وكلنا سمع تصريحات رسمية من قادة دول ورؤساء وزارات عربية وأجنبية تنعي الحوار وتقلل من شأنه، بل وترفضه، وتدفع في سبيل منع أي لقاء سوري- سوري الغالي والنفيس، بهدف واحد: تأزيم الأوضاع، والدفع بها باتجاهات عنفية متصاعدة للوصول إلى استتباع سورية وإركاعها، وذلك كله لم يكن مقدّراً له أن يحقق أهدافه بهذه الطريقة المفجعة لولا الفساد المادي “الاقتصادي، والمعنوي” الأخلاقي والثقافي، الذي ازداد وقاحة وتغوّلاً في ظل ظروف الحرب الحالية.

وربما كانت نقطة البدء الفضلى، كما نراها، لكل تلك المعارك، هي في رفع الحوار الداخلي كأولوية حاسمة على ما عداه، أي إعادة إعمار البنية التحتية المجتمعية أولاً، وهو أهم درس من دروس المرحلة الماضية، واعتباره “فرض عين” على الجميع، لأنه الحل الأول والأخير للأزمة، خاصة وأن الحوار لا يكون سوى مع المختلفين، الذين لا تعجبنا آراؤهم وأفكارهم، ولا نؤمن بما يقولون أو يفعلون، وهذا ما يفترض، بداية، إجماعاً تاماً على حق الآخر في الاختلاف، وإيماناً مطلقاً بأن الحياة لا تقوم -علمياً – إلا على جدل المتناقضات، ولا تثرى إلا بتزاوج المختلفات، ما يعني أن نتيجته المعلنة لن تكون إلغاء أحد، أو فرض وجهة نظر طرف على طرف، بل إيجاد قواسم مشتركة، تسمح للجميع بالمشاركة، والتفاهم على حفظ البلد، وشرعنة الاختلاف، وتنظيم سبل التعبير الحر عنه، وبالتالي إقرار الجميع أن “الاتفاق على المستوى الوطني هو الفيصل في إقرار أي اتفاق أو شأن أساسي” في مستقبل البلد، وتلك الوصفة الوحيدة لتحصين القلعة من الداخل، ومنع التدخل فيها، سواء عبر إعادة  الإعمار، أو عبر محاربة الفساد، أو عبر الحوار السوري- السوري القادم لا محالة.

أحمد حسن