دراساتصحيفة البعث

إضرابات فرنسا الداخلية والخطاب الكلاسيكي لسلطة دنيئة

ترجمة وإعداد: هيفاء علي

تدهورت شعبية ماكرون في الآونة الأخيرة على خلفية موجة الاحتجاجات العارمة، والإضرابات التي طالت قطاع السكك الحديدية، وقطاعات أخرى كثيرة، احتجاجاً على سياساته الاقتصادية الكارثية، وهنا لا ضير من إجراء جردة حساب لسياسة فرنسا الخارجية منذ ولاية ساركوزي وحتى عهد ماكرون الحالي، كونها  أساس تردي السياسة الداخلية، هذا عدا عن الحديث عن السياسة الداخلية التي ولّدت هي الأخرى ساحة من الدمار، إذ بوسع أي كان رؤية تكدس أنقاض بلد منكوب مع ديون عارمة لامست  عتبة الـ 2300 مليار يورو، ما يعني بالضرورة أن السياسة الخارجية اليوم تشكّل كارثة سياسية حقيقية لا نهاية لها باعتراف كبار المحللين الفرنسيين، وهو ما يدفع الفرنسيون ثمن تبعاتها غالياً في كافة شؤونهم الداخلية.

أولاً: السياسة الخارجية إزاء سورية

اتسمت هذه السياسة منذ عهد ساركوزي وحتى عهد ماكرون بالعدائية المطلقة تجاه سورية، لتكون فرنسا رأس الحربة في جوقة المتآمرين الغربيين، والعرب على سورية، ولم يكتف الرؤساء الثلاثة بدعم الإرهاب، وإرسال المال والسلاح والمرتزقة إلى سورية، بل دفعتهم عدائيتهم للتدخل العسكري المباشر في شمال سورية، حيث تتواجد قوات خاصة فرنسية لدعم التنظيمات الإرهابية، كما تبرع المدعو ماكرون بتوجيه ضربة عسكرية منفردة لسورية دون أي تفويض أممي بذريعة رواية “الهجوم الكيميائي المزعوم” في دوما.

ولابد من التذكير بأن الحرب على سورية بدأت بمحاولة زعزعة الاستقرار فيها عبر استثمار حركات “الربيع العربي” المزعوم عام 2011، وعندما فشلت هذه المحاولة فشلاً ذريعاً، شرع الغرب بتطوير وتوسيع إطار الحرب بالوكالة عبر استقدام مرتزقة وإرهابيين إلى سورية باسم تحالف دولي، وهذا ما كشفته وثيقته الدوحة في 11 تشرين الثاني 2012.

ولمواجهة التدفق الكبير للإرهابيين من كل أصقاع الأرض برعاية “تحالف الدوحة” بعد تجنيدهم وتسليحهم وإحاطتهم بعملائهم الاستخباراتيين والمستشارين العسكريين، ودفع الرواتب لهم، طلبت الحكومة السورية الدعم من روسيا، وإيران، والمقاومة اللبنانية لمساعدتها على محاربة الإرهاب العالمي، وعندما تدخل حلفاء سورية، وخاصة روسيا، سرعان ما مني “مرتزقة تحالف الدوحة” بالهزيمة، وبدأت طبيعة وقواعد الحرب بالوكالة تتغير، وهنا لجأ تحالف الدوحة إلى التدخل المباشر في سورية بفتح  عدة جبهات للمعارك: الأتراك يحاربون الأكراد في الشمال الجنوبي من سورية، العدو الإسرائيلي يحارب الجيش العربي السوري وحلفاءه في  سورية، أما فرنسا، وبريطانيا، والولايات المتحدة فقد أقدمت على شن عدوان ثلاثي على سورية دون أي تفويض أممي بذريعة الرد على الهجوم الكيميائي المزعوم  في الغوطة، لمواصلة الطريق الذي دشنته في العراق ومن ثم في ليبيا، أما ما تبقى من إرهابيي “داعش” فقد تم تغيير وجهتهم من قبل دول “تحالف الدوحة” للخدمة في صفوف جيوشهم التي تقاتل الجيش السوري.

في المقابل، كانت روسيا حاضرة بقوة إلى جانب الدولة السورية بناء على طلبها، والمرحلة القادمة ربما ستكون مواجهة مباشرة بين روسيا وحلفائها من جهة،  ودول”تحالف الدوحة” من الجهة الأخرى.

وعليه، “الهجوم الكيميائي” المزعوم استخدم لتحقيق هدف واحد، هدف وقح وإجرامي يرمي إلى تدمير الدولة السورية حكومة وشعباً ومؤسسات بالطريقة نفسها التي استخدمها التحالف الغربي في العراق وليبيا.

زد على ذلك، أن موقف فرنسا المعادي لطموحات شعوب منطقة شرق البحر المتوسط راسخ بقوة في عقول صناع السياسة الفرنسية، وشمل العديد من المحطات التاريخية، بدءاً بالاتفاق الودي بين فرنسا وبريطانيا الذي أُبرم عام 1902، وتم تجديده عام 2012، مروراً بنزول القوات الفرنسية في الساحل السوري عام 1918، واحتلال سورية عام 1920، ومن ثم فرض الانتداب عليها عام 1923، واقتطاع الأقضية الأربعة، وإلحاقها بلبنان، والتخلي عن لواء اسكندرون لصالح تركيا عام 1939، في خطوة تتناقض مع بنود صك الانتداب الذي عهد إلى الدولة المنتدبة مسؤولية الحفاظ على الكيان السوري الوليد، ومساعدة الدولة السورية على إنشاء جهاز إداري عصري، وعليه، لا يمكن لعاقل أن يتوقع الخير من حكام باريس الذين اختاروا الجنوح باتجاه الخيارات العسكرية كطريقة للهروب إلى الأمام بغية إيجاد مبررات جديدة لتعزيز الإجراءات الأمنية داخل فرنسا التي تعيش حالة من الاحتقان الاجتماعي تنذر باحتمال انفجار وشيك.

حقيقة تتجلى سياسة الغرب إزاء الدول غير الخاضعة لهيمنته في التقرير الأمريكي الذي يقول: “نريد مواصلة الضغط على روسيا، حتى لو لم يؤد هذا الضغط إلى إقناع موسكو بالتخلي عن الحكومة السورية كما نتمنى، سوف نستمر في إدانة الوضع الإنساني المرعب، وكذلك إدانة التورط الروسي في قصف أهداف مدنية في سورية”.

فإذا كان وزير الخارجية الفرنسي لودريان قد سمع هذا الاعتراف الأمريكي الوقح، فهل سيواصل تكراراً الكلام نفسه بأن الوجود الفرنسي اللاشرعي في سورية من أجل “محاربة الإرهاب”، ومعاقبة” الحكومة السورية على استخدامها السلاح الكيميائي ضد شعبها؟ وأن التدخل الفرنسي في ليبيا كان لأسباب إنسانية بحتة؟ وماذا عن اليمن؟ الشعب الفرنسي لم يعد قادراً على سماع لودريان ولا كلام ماكرون،  ولم يعد قادراً على أخذ كلامهما على محمل الجد بعدما سئم من كذبهما وخداعهما مثلما سئم من كذب وخداع السلطات الفرنسية العليا برمتها التي لم تعد بنظره سوى عصابة من المجرمين والفاسدين  والحمقى.

ثانياً: سياسة فرنسا الخارجية في اليمن

منذ بداية العدوان السافر على اليمن بقيادة مملكة آل سعود وحلفائها، توجهت الأنظار نحو الولايات المتحدة وبريطانيا إضافة إلى الدول العربية المشاركة فيما سمي بـ “التحالف العربي”، لمساهمتها وضلوعها في جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية جراء قيامها بتزويد النظام السعودي وحلفائه بالسلاح لاستخدامه ضد المدنيين، ولم يتحدث أحد عن دور فرنسا ومشاركتها في الحرب على اليمن من حيث تزويدها السعودية بالأسلحة، وفي الوقت الذي يخرج فيه المسؤولون الفرنسيون لوسائل الإعلام يعلنون إدانتهم المطلقة للحرب، ويدعون جميع الأطراف المتنازعة لاحترام القانون الدولي، ووقف المعارك والهجمات التي تستهدف المدنيين والبنى التحتية، كانت فرنسا تبرم صفقات الأسلحة  الجديدة مع السعودية لاستخدامها ضد الشعب اليمني، وقد وثقت منظمات غير حكومية وأخرى أممية حصول عشرات الغارات غير القانونية شنتها قوات التحالف يرقى بعضها إلى جرائم الحرب، تسببت بمقتل مئات المدنيين، بعضها استخدمت فيه قنابل عنقودية محظورة دولياً.

وبالاطلاع على التقرير البرلماني الفرنسي الصادر عام 2017 حول صادرات الأسلحة الفرنسية، سرعان ما يتضح أن السعودية هي “الزبون الثاني” لمصنعي الأسلحة الفرنسية بين عامي 2016-2017، فالأسلحة التي باعتها فرنسا للسعودية والإمارات هي التي تشن الغارات وتقصف اليمن، واستخدمت لقتل المدنيين وتدمير البلاد، وعليه فإن بيع هذه الأسلحة هو انتهاك وخرق لمعاهدة حظر تجارة السلاح، وللوثيقة الأوروبية حول الموضوع نفسه، هاتان الوثيقتان تحظران نقل العتاد العسكري والحربي في عدة حالات، وعلى وجه التحديد في الحالات التي تتواجد فيها مخاطر انتهاكات خطيرة للقانون الدولي الإنساني، أو مخاطر تدمير إقليمي، وهذا ما حصل فعلاً، وقد أبدت العديد من المنظمات الدولية قلقها من مسألة بيع السلاح الفرنسي للسعودية، واتهمت السلطات الفرنسية بانتهاك معاهدة تنظيم تجارة الأسلحة الدولية، وتجاهلت التزاماتها، واستمرت في توريد الأسلحة، وانتهكت حقوق الإنسان، إضافة إلى أن الأسلحة التي قدمتها فرنسا لدول “التحالف العربي” ساهمت في تسريع الكارثة الإنسانية في اليمن في الوقت نفسه الذي تزعم فيه خوفها على المدنيين، وتذرف دموع التماسيح على الشعب اليمني، وتزعم تقديم الإعانات الإنسانية له، وما زال الشعب اليمني يدفع ثمن هذه الأسلحة الحارقة.

في السياق ذاته، كشفت مصادر فرنسية موثوقة النقاب عن مشاركة قوات فرنسية برية بشكل مباشر في الحرب على اليمن، ولأن طيران التحالف يحتاج إلى التزود بالوقود أثناء عملياته الجوية، قامت فرنسا بتزويد السعودية بطائرات ايرباص “330-200 “بعد ثلاثة أشهر فقط من الحرب،  وقدمت فرنسا للتحالف 276 مدرعة و200 زورق لتعزيز الحصار على اليمن، إضافة إلى تزويده بمروحيات وطائرات دون طيار وقنابل محرمة دولياً.

وفي محاولة منها للالتفاف على القانون، قدمت السلطات الفرنسية دوافع وأسباباً مبتذلة: “احترام حقوق الإنسان”، “الاستقرار الإقليمي” أو ضرورة دعم “محاربة الإرهاب”.. باختصار استخدمت الخطاب الكلاسيكي لسلطة دنيئة تدعي أنها مثالية منذ زمن طويل، لكنها تفعل كل ما يخالف إرادة الشارع الفرنسي، وكل ما يخالف القانون الدولي، كل ما يعنيها هو التجارة، بيع الأسلحة الذي يدر أرباحاً طائلة ويساعد فرنسا على إرضاء توازن ميزان المدفوعات والعائدات في المالية الدولية التي تطلب قرابين دامية لتهدئ غضبها وجشعها الشره، رغم كل ذلك لم يُسمع أي احتجاج من قبل ما يسمى ” المجتمع الدولي” أي الدولة العميقة الشمال-أمريكية، الاتحاد الأوروبي أو دول “تحالف الدوحة”، عندما يتعلق الأمر بعمليات القصف الجوي والمدفعي السعودي على اليمن، لإدانتهم بقوة بالتهديد بالتدخل لإنهاء هذه المجزرة الشنيعة التي تجاوزت كل” الخطوط الحمراء” لما يمكن تحمله، السعودية استخدمت أسلحة الفوسفور الأبيض ضد الشعب اليمني الأعزل، وتهمة اليمن الوحيدة أنه ليس بلداً حليفاً ويذعن للهيمنة الغربية، غربان الصناعة الفرنسية الذين يدعمون حصاراً قاسياً وجائراً  على اليمن، هم الذين يعملون على تجويع اليمنيين الذين يموتون كل يوم، السفن البحرية الحربية الفرنسية عملت على تأمين استمرارية هذا الحصار الإجرامي وشاركت مباشرة بقتل الأطفال اليمنيين والإفلات من أي قصاص وحساب، فرنسا لم تراع القوانين الدولية بل تجاوزتها وداست عليها وارتكبت الجريمة، فلماذا لا يتمرد العسكريون الفرنسيون عندما تطلب منهم دولة مافيا ارتكاب مجازر بحق البشرية؟ وماذا ينتظرون لاحترام الدستور الفرنسي عندما تسمح هذه السلطة الفاجرة بانتهاكه إلى هذه الدرجة؟.

حقيقة، لايزال المجتمع الدولي عاجزاً حتى الآن عن إنهاء الحرب وإنقاذ اليمن وشعبه، ومن الواضح أن مؤتمر الخبراء الذي عقد في باريس في27حزيران لم يف بوعوده، بل على العكس تستعر الحرب أكثر فأكثر بعد الهجوم الذي أطلقه التحالف على الحديدة، إذ يعمل التطرف في منطق التحالف على تخريب كافة المبادرات الإنسانية والسياسية الرامية إلى التوصل لحل غير عسكري للنزاع، وخطة السلام التي أعدها المبعوث الأممي الخاص، البريطاني مارتن غرفيث معرّضة للخطر جراء الهجوم على الحديدة الذي شنته القوات الإماراتية،  ويبدو أنه لا وجود لأي أمل يلوح في الأفق في إنهاء هذه الحرب الشرسة.

ثالثاً: في ليبيا

تتلخص بالتدخل الفرنسي-البريطاني بذريعة أسباب إنسانية، والذي  بدأ على ثلاث مراحل بقصف طرابلس، ومن ثم الهجوم على بنغازي بطابور من الدبابات والمدرعات، ومن ثم تحويل طرابلس وبنغازي إلى ركام من الأنقاض، عدوان سافر تم بناء على الأكاذيب والتضليل وتلاعب السلطات الفرنسية بعقول الغربيين القاصرة، وعلى وجه الخصوص الفرنسيين الذين تم خداعهم وتضليلهم من قبل ساركوزي ومستشاريه العسكريين لتبرير العدوان وتدمير ليبيا والشعب الليبي باستخدام ذرائع واهية، لتتحول ليبيا اليوم إلى بلد مُقسّم، مُهدّم ومُدمّر بين أيدي الإرهابيين المدعومين من الغرب، فرنسا وحلفاؤها كانت المحرك الأساسي، وصناع هذه الكارثة التي أصبحت عليها ليبيا، وكما أظهرت مراسلات وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، هيلاري كلينتون، فإن الولايات المتحدة وفرنسا اتفقتا على عرقلة خطة القذافي الذي كان يريد طرح عملة أفريقية بديلة للدولار الأمريكي والفرنك الفرنسي الذي فرضته فرنسا على مستعمراتها الأفريقية السابقة الأربع عشرة، بعد اغتيال القذافي وتدمير ليبيا، بدأت فرنسا تتقاسم حصتها من الغنيمة الليبية مع حلفائها، وهي بلا شك غنيمة كبيرة: الاحتياطات النفطية الليبية، الأكبر في أفريقيا، واحتياطات الغاز الطبيعي، الطبقة الكبيرة للمياه الجوفية، ذهب أبيض أغلى ثمناً من الذهب الأسود، والأرض الليبية نفسها ذات الأهمية الجيواستراتيجية الأولى: الصناديق السيادية حوالي 150 مليار دولار كاستثمار في الخارج تم تجميدها عام 2011 من قبل مجلس الأمن الدولي الذي تحركه الولايات المتحدة وتفرض القوانين الدولية متى شاءت،  مبالغ ليبية هائلة اختفت من البنوك الأوروبية والأمريكية، والنتيجة كانت تدمير البلاد وقتل الشعب وتهجير آخرين ونهب خيراته وتدمير قدراته بفضل “الحس الإنساني المرهف” الذي يتمتع به هؤلاء الغربيون، وعلى رأسهم فرنسا.