ثقافةصحيفة البعث

“قبل أن تنام الملكة”.. حكايات على درب الآلام

 

والـ “ملكة” ليست سوى الابنة الوحيدة لراوية الحكاية التي أصر والدها “نعيم” على أن تحمل اسم “جهاد” الذي أراده بشدة حتى قبل أن يتزوج، كي لا يتأخر عليه الوقت في اكتساب لقب “أبو جهاد”: “تاق والدي لولد يكون بِكرَه، أرادَ الصبي بِشدة، أعطاه الاسم قبل أن يراه، وامتشق صفة الاسم المبتغى قبل أن يتزوج” وحين كان يناديه الأصدقاء بأبي جهاد “كان يشعر بأنه يسير إلى قمة العالم، وأن قرع طبول مدوياً يرافقه في سيره “هكذا بقيت مولودته الأولى خمسة أيام دون اسم” وفي اليوم السادس صحا أبي صائحاً “جهاد”، قاومت أمي الاسم استماتت كي لا أسمى به، بكت، فلم يضعف أبي، وربما لإيمانها أو عن خبرة اكتسبتها من تبعات اسمها، أصرت على إطلاق اسم “ملكة” على وليدتها الأولى والتي ستكون وحيدتها أيضاً.

تكرار تجربة
من جديد تأتي رواية “قبل أن تنام الملكة” لترصد وقائع التغريبة الفلسطينية والشتات والترحال وسواها، ذلك الحال التي رافق الفلسطينيون بعد أن سلبت الأرض، فباتت الجرح العَصي على كل شفاء حتى اليوم، وحين سأل المحاور “حزامى حبايب” صاحبة الرواية: يبدو أن هناك تماساً بين روايتك «قبل أن تنام الملكة» ورواية غسان كنفاني «رجال في الشمس» هل هناك علاقة ما في هذا الإطار؟ أجابت:
– هناك رحلة مهمة في ذلك الوقت تذكرني برواية غسان كنفاني «رجال في الشمس»، عندما قطعوا صحراء العراق إلى الكويت، وهذه رحلة عكسية، والمفترض أن تقطع التجربة من الكويت إلى الأردن عبر العراق.
وهكذا تختار لبطلة روايتها أن تعيش التجربة ذاتها في رواية كنفاني بعد أربعين عاماً، إذ أن الفكرة هي التركيز على المأساة الفلسطينية المتكررة، وإن بغير اتجاه. الأمر الذي تتيحه طبيعة الرواية السردية التي يمكنها أن تلبي رغبات الراوية وتتيح لها تقديم صورة أقرب إلى حقيقة التحولات والتغيرات وصيرورة المجتمعات – أيّة مجتمعات- فكيف بها إن كانت تضج بالحياة والحركة، وبالتالي غنية بالتناقضات ولديها قابلية كبيرة للتقلبات إذ لا أسس تتكئ عليها فتحمي استقرارها أو تؤسس له.

أسماؤنا غير الحسنى
الرواية التي أتت في أبواب ستة “في الرحيل الثاني، في مآل المال، في أسمائنا غير الحسنى، في البيوت العارية، في الحب غير المنطقي وفي الحياة الأقل منطقية، والباب الأخير حول المعنى وبعض المجاز” أفردت مساحة واسعة وخاصة للأسماء وإيحاءاتها وما تحمله من قادم الأيام لأصحابها، تقول تخاطب صغيرتها الغائبة “اعلمي جلالتك أن الأسماء كالأديان لا نختارها، وإذا كنا قادرين بفكر مدرك لاحقاً وبشق الوعي نزع دين القبيلة، فإننا لسنا بقادرين على نزع الاسم لأنه يصبح شيئنا، جزءاً من خلقتنا”. وهو حالها الذي طبعه الاسم وقد عقد الأب آماله عليها وأحبها بشكل مختلف “على ما أتصور للرجل الذي فيّ، أو الذي رآه فيّ وأراد أن يكونه” حتى مع قدوم ثلاثة من المواليد الذكور “بابا أنتِ رجل البيت” يخاطبها في كل حين، وقد وضعها أمام واقع مستقبلها القادم “مشيتُ في طريقي أحمل عبئاً وجسماً مفصلاً بمسطرة، كأنه تكيّف مع الاسم الذكوري دون التباس فاستقامت استداراته، واستوت انتفاخاته منزلقاً في البنطلونات الواسعة العريضة” ستروي لنا عبر صفحات قصصاً صغيرة لوقع الأسماء التي عاشت معهم أو حدث أن مروا في دائرة حياتها، فأصاب اسم قديرة رحم صاحبته بالجدب لأن فيه “تعديا على قدرة الله وحده القادر على كل شيء، وحده القدير المقتدر، ووحده صاحب القدرة” حتى استبدلته باسم خضرا، بينما بقيت الجدة غير متوافقة مع اسمها حتى نهاية حياتها “جدتي رضيّة كانت غير راضية عن أشياء كثيرة في حياتها” وفي كل مفصل من المفاصل التي مرت بها، لم يضف اسم والدها أي “نعيم” على حياتهم “أبي هو نعيم والـ “نعيم” ليست حاله وإنما اسمه الذي رُكّب عليه عنوة، فنعيمه بالكاد غطّى عورته وعوراتنا” وتمضي حياتها تجسد كل معنىً يمكن أن يحمله اسم جهاد “كان دخلي أكثر من ضعفي دخل أبي، فساهمت في تغطية رسوم رانيا الجامعية، وتكلفتُ برسوم ونفقات التعليم الجامعي لكل من ريما وجمال، ومن وقت لآخر أرسلُ لجدتي فاطمة بعض الفلوس، وأرسل لجدتي رضية مع المسافرين شامبو وبلسماً وصبغات للشعر” ولن يتوقف الأمر عند هذا الحد بل ينسحب على بقية أيام حياتها. “كان على أحدنا أبي وأنا، أن يذهب إلى الأردن لنجدة أمي وأخوتي، فيؤمن لهم البيت والمال والطعام.. شرح لي أبي أن العمل في الأردن قد لا يكون متيسراً لمن في سنه ومجاله”.

في الرحيل الثاني
لم تعتمد الكاتبة على تسلسل زمني في رواية تغريبتها، إذ تنتقل من زمن إلى آخر، ثم ترتد إلى الخلف لترصد فترة مغايرة تماماً، متجهة في سرديتها إلى ملكة حياتها إثر رحيلها الثاني عنها “أنا رايحة أدرس مش رايحة أحارب” تقول لها الفتاة وقد أصابها حرج من بكائها الدرامي لحظة وداعها في المطار، تعود إلى المنزل تغلق الباب على روحها، لتصطدم برائحة ابنتها وأشيائها وبقاياها التي تملأ زوايا المكان.
هكذا يستدعي سفر الفتاة ومشهد ابتعادها في المطار، مشاهد وصور الترحال التي تكررت في حياتها، والتي طبعها الحزن والبكاء الذي إن لم يأت طوعاً وهو كذلك غالباً، استدعاه أي مشهد أو أغنية أو فيلم سخيف حتى وإن أتت نهايته سعيدة.

وفي مآل المال
ستحكي عن حياتها في الكويت حيث اللجوء الأول للعائلة في “النقرة” الحي السكني الذي يأتي طبقاً لأي مخيم من مخيمات البلد، ولكن: “الحياة في بلد نفطي كالكويت لم يجعلنا كويتيين، كما كان أقرباؤنا الكثر الذين خلفناهم خلفنا في المخيمات يتهموننا أو يحسدوننا” فالحياة هناك كانت في واقع الأمر امتداداً لأي حياة في أي مخيم آخر موسومة بالشتات مع بعض التحسينات والقليل من الإضافات.
وحيث الفقر والعوز سمة عامة وخصوصاً عندما تتزايد الأفواه الجائعة دون حساب، لا بد من مخابئ سرية اقتضتها قلة المال وسعة الحيلة وابتكرتها حصافة من حولها “يظل المال غافياً أطول وقت ممكن قبل أن تطوله يد الضرورة بتردد وحذر وشيء من ذنب” ما أفردت له مساحة واسعة كشفت فيه عن وسائل توفير وكسب وتخزين لجأت إليها النساء من الجدة رضية مروراً بالعمات والخالات وصولاً لها، الأمر الذي احتاجته أثناء عملها في التدريس من خلال مجموعة لوحات وصور تنتزع الضحكة رغم المرارة، إذ هي واقعاً حقيقياً.
ولكن، سيأتي اليوم الذي يقض مضجع العائلة وكل العائلات إثر غزو الكويت في بداية التسعينيات ما يضع الجميع أمام فقدان ثانٍ للوطن، ترحال جديد ودرب آلام مشوب بآمال العودة كما في كل رحيل، ولا بد من السير فيه للبحث عن وطن طارئ جديد، ومن الكويت مروراً بالبصرة وبغداد وصولاً إلى الأردن حيث وجهة الأم والأبناء، وحيث لا بد من ترتيب جديد لكل الأشياء في الحياة، ليبقى الأب وجهاد في الكويت لحماية الدكان مصدر الرزق الوحيد، وحين تستنجد الأم وقد نفذت ذخيرتها سيكون على أحدهما السفر وهو ما يكون على جهاد القيام به مع صغيرة بين ذراعيها “كان على أحدنا أبي وأنا، أن يذهب إلى الأردن لنجدة أمي وأخوتي، فيؤمن لهم البيت والمال والطعام.. شرح لي أبي أن العمل في الأردن قد لا يكون متيسراً لمن في سنه ومجاله”.

في الحب غير المنطقي
هنا تغدو الكتابة نوعاً من الخلاص ووسيلة للتعبير عن الذات وهو ما أتى على لسان بطلة الرواية بعد أن ركنت توقها للكتابة جانباً، تروي شأنها الخاص وقصة الحب الذي جمعتها وإياس سليمان أستاذ الدراما والمسرح في كلية الآداب في جامعة الكويت حيث تدرس، وحيث لازمها الخوف دائماً من الغواية الأنثوية لفتاة باسم ذكوري “ونحن إذ نتعثر بالحب فإن القلوب تلحق بها الكدمات، وقلبي يا ملكتي من أورام الفقد ورضوض الخذلان مزرقاً ما زال” وهنا سيكون عليها أن تحد من توقعاتها وخصوصاً حين يكون الرجل رب عائلة “كيف نعرف أننا نحب من نحب، كف نميز بين الحب في خلقه الصحيح والحب في اختلاقه”؟ وهاهو شتات آخر، إذ سيرحل عنها إياس بعد زواجها من أحمد الذي سينقل إليها خبر الرحيل بشماتة العالم بحبها له، لن تعرف عن أخباره شيئاَ إلا بعد انفصام عرى زواجها، لكنه سيغادرها ويغادر الحياة سريعاً إثر حالة من الاكتئاب وهو في عمر الخمسين. ويعود إليها في حضور ابنه طارق المخرج المسرحي الذي قدم للإشراف على العرض المسرحي “ج” آخر أعمال والده الذي يهديه إليها “تركني طارق لمشاعري بعض الوقت ثم قال: المسرحية مهداة لإلك.
– وكيف عرفت إنو “ج” أنا؟
– أنا مش كتير شاطر، بس أبي كان كتير واضح.
فتح طارق الغلاف، وجعلني اقرأ الإهداء على الصفحة الأولى: “إلى جهاد نعيم وفقط”.
وكأنها سيرة ذاتية وبإيقاع متناغم ما بين الساخر والوجداني وبلغة سردية سهلة منسابة كما الماء، اقتربت من الشعرية في كثير من الأحيان، رصدت حزامى حبايب في روايتها الثانية والتي صدرت في العام 2011، حياة العوائل الفلسطينية في ترحالها الدائم ممثلة بعائلة “نعيم” في حركتها سواء أوان مكوثها شبه الدائم في الكويت أو في الأردن الوطن المؤقت الثاني، فأضاءت على العديد من القضايا بعضها يتعلق بحال العداء الذي واجهته كلاجئة في المدرسة حيث تقوم بتدريس اللغة الإنكليزية، وأشارت بشكل واضح إلى المد الديني الذي طغى على الفكر الثوري الذي كان سمة الستينيات والسبعينيات، بينما لم يفقد إنسانها وعلى امتداد سيرة العائلة التي افترشت العديد من بقاع الأرض العربية، تلك الطيبة والإحساس بالآخر واحتياجاته برغم العوز والفقر والقهر الذي هو حال الجميع إلا قليلاً.

بشرى الحكيم