تحقيقاتصحيفة البعث

بحثاً عن الحلول الاقتصادية المؤشرات الرقمية تثبت الفوضى السعرية.. والرهان على تخفيض الأسعار في ذمة الجهات الرقابية

 

تنشغل جميع شرائح المجتمع السوري في مراقبة القرارات والإجراءات التي تساهم في تحسين الحالة المعيشية، فتنطلق الآمال من مؤشرات السوق، والمراهنة على تخفيض الأسعار، وسقوط الدولار أمام الليرة السورية، إلى أحلام زيادة الرواتب والأجور، وتلجأ بعض شرائح المجتمع لطرح أفكار خلبية حول الظلم الذي يتعرّضون له نتيجة انخفاض أجورهم مقابل ارتفاع التكاليف للمواد التي يعتمدون عليها في مهنتهم، وما يلفت النظر في قضية رفع الأجور هو عدم الحديث المنطقي في عرض مشاكلهم، وغياب أهم جانب فيها، وهو القدرة المعيشية للمواطن، كالصيحات العديدة التي جاءت على لسان رؤساء النقابات كنقابة طب الأسنان وغيرها تشكو الظلم الذي يطالها من قلة الأجور، رغم أن الواقع يشير إلى غير ذلك.

أجور الصحة
يختلف الواقع المعاش عن تلك الصيحات التي تريد سحب الحبل إلى جانبها، فالواقع يشير إلى أن معظم من ينددون بضعف الأجور يحصلون على أكثر من أجورهم بكثير، فالجميع يعلم أن بعض كشفيات الأطباء تصل إلى 7000 ليرة سورية، أما بالنسبة للأدوية فيمكننا من خلال الواقع أيضاً الإشارة إلى السمسرة التي يتبعها الصيادلة لتأمين بعض الأدوية الأجنبية، وابتزاز المواطن للحصول عليها رغم توفرها في الأسواق، وهي حالة باتت من المسلمات بالنسبة لنا، هذا ما يدفعنا للحديث عن كشف الواقع قبل الإصغاء لتلك الصيحات التي تدعو لرفع الأجور، وهنا يؤكد دكتور الاقتصاد أحمد بدر أن الهوة أصبحت كبيرة جداً بين دخل المواطن واحتياجاته، فهو الجهة المظلومة في تداعيات ارتفاع الدولار، إذ لا يمكن أن يتناسب الراتب مع أجر الطبيب، أو الأدوية، أو غيرها من الخدمات الأخرى التي ارتفعت أجورها بشكل تلقائي، والمشكلة الأكبر هي أن تتم المقارنة مع الدول الأخرى، ورفع الأجور على هذا الأساس، لأن المؤشر الحقيقي لرفع الأجور هو دخل المواطن، إذ لا يمكن أن تصل كشفية الطبيب إلى 7000 ليرة سورية عندما يكون دخل المواطن لا يتجاوز في أعظم الأحوال 40000 ليرة سورية، وبمعنى آخر لا يمكن أن تكون عدالة الأجور مبنية على سوء معيشة المواطن، ومن المنطق أن تتناسب رواتب ومعاشات الموظفين مع الارتفاعات الحاصلة، وخاصة المتعلقة بقطاع الصحة من تكاليف معاينة، وعلاج، وأدوية، وغير ذلك.

أجور التعليم
إذا كان كل قطاع يبحث عن حلول اقتصادية لمشكلاته دون الأخذ بعين الاعتبار الواقع المعيشي، سنصل بالنتيجة إلى فوضى معيشية غير قابلة للاستدراك، لذلك لابد من وجود معايير وضوابط تبنى عليها آلية رفع الكشفيات، والأدوية، والعمليات الجراحية، وتكاليف الجامعات والمدارس الخاصة، وغيرها من القطاعات التي تنفرد بوضع أسعارها معتمدة على لائحة تكاليف تبدو وهمية إلى حد ما بالنسبة لما تقدمه من خدمات، ويؤكد لنا أستاذ الاقتصاد مصطفى حسين بأن أسوأ روضة أطفال في سورية يبلغ فيها القسط السنوي نحو 150 ألف ليرة سورية، أما روضة الأطفال التي تقدم نموذجاً متطوراً للتعليم فقد يصل فيها القسط السنوي إلى 500 ألف ليرة سورية، وهناك مدارس للمراحل المتقدمة يصل فيها القسط لأكثر من ذلك بكثير، وإذا أجرينا مقارنة بين تلك الأقساط والرواتب التي يتقاضاها الموظفون في القطاعين العام والخاص فإننا نجد تفاوتاً كبيراً وغير مقبول ما بين تلك المدارس، والروضات، ورواتب الموظفين، ولا يبدو أن هناك معادلة صحيحة في وضع تلك الأجور العالية، وهنا لا نتحدث عن جودة الخدمة المقدمة، أو قيمتها الحقيقية لأننا نعلم جيداً أن الجودة فيها لا تستحق تلك المبالغ، وإذا أردنا الكشف عن أجور الجامعات الخاصة فإن المصيبة أكبر!.

غياب المعايير
قد يتحول مبنى في دمشق إلى مشفى، أو مدرسة، أو أي مشروع استثماري، وهي حالة موجودة بكثرة في واقعنا الذي تغيب عنه المعايير المناسبة لأي مشروع استثماري، وببساطة شديدة يستطيع صاحب المشروع فرض شروطه وأسعاره بعيداً عن مستوى الخدمة التي يقدمها، فلا يوجد من يحاسب أو يراقب تلك الخدمات، ويرى الخبير الاقتصادي أحمد محسن أن جميع الأسعار للمدارس أو المشافي الخاصة تكاد تكون واحدة ومتقاربة رغم اختلاف مستوى الخدمات فيها، فغياب الرقابة، وعدم وجود جهات معنية تحدد جودة ومستوى الخدمة المقدمة سمحا بفوضى الأسعار لتلك الخدمات الطبية والتعليمية، فالمدرسة التي تعلّم أكثر من لغة في منهاجها، والتي تعتمد على وسائل تعليمية حديثة، والتي لديها مبنى يتناسب مع طبيعة عملها التربوي كالباحة الواسعة، وعدد الصفوف، ومستوى المدرّسين، تختلف كثيراً عن المدارس التي تعمل بطريقة بسيطة، أي أنها تعتمد على المنهاج المحدد من قبل وزارة التعليم، وتعتمد على كوادر أقل، أي أنه لا قيمة مضافة على عملها، ومن هنا يكون الاختلاف في تحديد الأسعار، وهذا ينطبق على خدمات المشافي من طبيعة المبنى، وعدد الغرف، والأسرة، والأجهزة الموجودة فيها، والتي على أساسها يجب وضع الأسعار.

لجنة حكومية
يرى بعض الخبراء أن الفوضى التي سببتها أسعار تلك الخدمات لا تتعارض فقط مع دخل الفرد، وإنما تتعارض مع المستوى الذي يجب أن تكون عليه تلك المدارس والمستشفيات، وبما أن السياسة الاقتصادية تدعو إلى حكمة خفض وتثبيت الأسعار قبل رفع الرواتب للموظفين، فهي فرصة ذهبية لوجود لجنة حكومية تعمل على تحديد أسعار الخدمات لتلك المشافي والمدارس، وربطها بالواقع، تماماً كما تفعل في القطاعات الصناعية، والتجارية وغيرها، إذ ليس من العدالة أن يتحمّل المواطن فقط تداعيات الأزمة الاقتصادية في البلد، وأي ارتفاع للأجور في أية جهة كانت يجب أن يكون مبنياً على دراسة اقتصادية وواقعية تتلاءم مع الوضع الاقتصادي العام.
ميادة حسن