أخبارصحيفة البعث

السياسة الأمريكية.. لا مجال للصدفة

لم يكد الرئيسان الأمريكي والروسي ينهيان مؤتمرهما الصحفي عقب القمة التي وصفت بـ”التاريخية” في هلنسكي، حتى بدأت الانتقادات تتوالى ضد دونالد ترامب وأدائه ومواقفه في القمة، بداية بزعماء حزبه الجمهوري الذي ينتمي إليه، ومروراً برؤساء أجهزة الاستخبارات السابقين والحاليين، وانتهاءً بخصومه في الحزب الديمقراطي، حتى إن بعضهم وصف ما قام به ترامب بأنه خيانة عظمى، ويجب محاسبته فوراً.
مشهد لم يعهده أي رئيس أمريكي على الإطلاق، وهو متربع على كرسي البيت الأبيض، وكأنه – أي “ترامب” – وصل إلى سدة الحكم عبر انقلاب عسكري. ومن المعلوم أن ترامب خالف كل التوقعات أثناء الحملات الانتخابية، وحقق فوزاً مريحاً على منافسته الديمقراطية كلينتون، بمعنى آخر هو يحظى بثقة شارع وازن ومجمع انتخابي ممتد على مستوى الولايات المتحدة انتخبه في النهاية ليكون الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة الأمريكية، والسؤال: لماذا كل هذا التشكيك بإمكانيات الرئيس ومقدراته، واعتباره عميلاً خاصاً روسياً على الأراضي الأمريكية، هل هناك من أمر حصل داخل الدولة “العميقة” الأمريكية أربك مخططاتها ومشاريعها مع وصول ترامب إلى المكتب البيضاوي، أم أن كل ما يجري من مشهد فوضى في العاصمة واشنطن هو مجرد مسرحية تقوم أجهزة الاستخبارات بإخراجها وتسويقها لتعميم سياسة معينة تريدها هذه المؤسسات واللوبيات كـ”الفوضى الخلاقة” مثلاً؟!.
لا شك أن الانتقادات التي يتعرّض لها ترامب لم تأت من فراغ، فالرئيس الذي وصف بـ”غريب الأطوار”، والكاسر لكل الأعراف والتقاليد الرئاسية، “معظم قراراته تعلن عبر توتير”، فاجأ الجميع في المؤسسة الحاكمة وقلب أوراقها، ما دفع المتضررين إلى شن حملة غير مسبوقة عليه، بداية من قضية التدخل الروسي، مروراً بتسريب تسجيلات خاصة بكبار موظفيه، وتالياً الاستقالات بالجملة في فريقه الرئاسي، وليس انتهاءً بالتشكيك بقدراته العقلية، في محاولة من المؤسسة لترويضه وفرض شروطها عليه، ولكن لغاية اللحظة ما زال مستمراً في مسيرته، رافضاً تسليم كل أوراقه، والدليل ما جرى خلال قمته مع بوتين، فهو نفى تدخل روسيا في الانتخابات على الرغم من التقارير الاستخباراتية والاتهامات ضد من وصفوا بالضباط الروس “12” ، وأنه أي -ترامب- معني بإقامة علاقات مميزة مع موسكو رغم المعارضة الداخلية الأمريكية لذلك.
ومن جهة ثانية هناك من يؤكد، أنه في واشنطن لا شيء يحدث بالصدفة، فوصول ترامب، وكما يصوّره المسلسل الكرتوني الشهير بـ”سمبسون” كان معروفاً منذ بداية العقد الأول من القرن الحالي، أي لا شيء خارج عن السيطرة، وبالتالي فإن كل ما يحدث هو مخطط له بعناية فائقة، ويأتي لتحقيق هدف معين قد ينجزه ترامب، وقد يحتاج لوصول رئيس آخر بمواصفات أخرى، “أوباما والحرب الناعمة” مثال، المهم الصدفة لا مكان لها. فالمؤسسة الحاكمة لم تحتج على فرض عقوبات تجارية على الصين، ولم تقف بوجه الرئيس بخصوص الرسوم التي فرضها على الحلفاء الأوروبيين واليابانيين، ولم تعارض صفقاته المليارية مع دول الخليج العربي، ولا حتى خروجه من الاتفاقيات المناخية ولا التجارية، فالجميع يجب أن يكونوا خلف واشنطن وليس بجوارها.
أما جوهر الخلاف الظاهر بين الطرفين فهو العلاقة مع روسيا، فالمؤسسات الأمريكية في العقيدة الجديدة أكدت أن موسكو عدو وخطر دائم، وبالتالي فإن توجيه اللوم للرئيس واتهامه في علاقته بروسيا هو لعبة ماكرة من هذه المؤسسات، لعدم الاعتراف بالدور الروسي المستجد في العالم، كقطب جديد يفرض شروطه وسياساته، وإنما العمل على جرها إلى مسائل ثانوية تبعدها عن ممارسة دورها العالمي، ودفعها لأن تبقى في موقع الدفاع عن النفس في وجه الاتهامات التي تساق ضدها، وهذا ما يحدث اليوم بالفعل، فالروس يومياً يؤكدون أنهم لم يتدخلوا في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، ولم يسمموا سكريبال، والرئيس بوتين شرح مطولاً أمام ترامب في المؤتمر الصحفي عن شركة “كونكورد” لتبرير عدم علاقة موسكو بها، وبالتالي براءتهم من التهم.
ما يهم أن ترامب استطاع بشعبويته وتطرفه كسب الناخب الأمريكي اليميني في المستويات كافة، والوصول إلى البيت الأبيض، واليوم ينفذ سياسة يعتقد أنها تؤكّد هدفه “أمريكا أولاً”، وهو يلقى دعماً كبيراً من الشارع الأمريكي، فهل ما يقوم به يتقاطع مع ما تريده المؤسسة الحاكمة، أم أن توجهاتهما مختلفة؟.. الأيام ستؤكد مرة أخرى أنه في واشنطن لا شيء يحدث بالصدفة.
سنان حسن