الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

انهدامات الحنين

سلوى عباس
لم يخلف وعده لها أبداً، ولم يتأخر عن موعد مجيئه، لكن إحساسها هذه المرة كان مختلفاً، قلق ما يقض روحه لاتعرف له سبباً.. اتجهت نحو الهاتف وجلست أمامه تنتظره أن يرن.. أن يرسل لها منه صوتاً.. حرفاً.. أو سلاماً.. كل ما في الكون هادئ ومستكين.. وحدها تقف حزينة قرب نافذة لا تفتح ضلفتها على قلبها، ولا وجهاً يطل من بابها ليوقظ روحها.. هاتف كما قفص تجول في جنباته لا تلوي إلا على جرس.. مرهونة مسامها للرنين.. لكلمات تشعل شمسها وتعلن عودة الحياة.. تنتظره أن يرن إليها بصوته ليعود إليها لونها، وليعود ضوء النهار يشع في روحها.. لتدرك أن هناك نهاراً وهناك ثمة حياة.. خيالها لم يعد يكفيها ولا ما تختزن من ذكريات.. كلما وضعت صورته أمامها تنهمر آلاف اللحظات وتغمرها ابتسامته بفيض من حنان.. تمد يدها إليه عبر الطيف لتلمس وجهه، فيفاجئها الورق والتماع الصورة فتقف عاجزة عن اللقيا وتوقظها أشواقها أن هذا لا يكفي.. فلا الورق يوصل دفئه إليها أو تحييها نظرة عينيه.. الورق يحجب عنها سماع أنفاسه وحرارة حروفه.. كما طاولة عرضها السموات والأرض تفصل بينها وبينه.. تراه ليس إلا.. تلون الدنيا بعينيه كي تذوب فيها وتغمر الربيع برائحته كي تعيش بها.. ليس من رنين يوقظها ويقول إنه غلط.. لا صوت في المكان إلا وقع أقدام تروح أو تجيء.. لا ترى أحداً ولا تسمع أحداً.. تمد يدها إليه بين بياض صفحات الكتاب.. يضيئها ببهائه حالما تنحسر الصفحة عن صورته، ضوءاً من اللهفة والاشتياق يوقظها كما الشمس تحيي عشبة داهمها صقيع الليل..
كان هذا ما يجري وهي تلمس صورته.. كان يتدفق كلامه إليها نشيداً يملأ ملكوتها.. جليل الوقع غامر الدفء.. يفتح نافذة صغيرة تطل على قلبها.. ظلال صورته تناغي مسمعها فتغني أسراره.. وحدها تغني في المفصل الليلي تغمرها بموسيقا ابتسامته فتخلد إلى عشبة تخطها بماء الندى وتواري روحها في اخضرارها الباسق البديع.. لا شيء يسبغ على دمها قوانين السكينة.. لا شيء يوقف انهدامات التذكر والحنين.. سيل من مشاعرها يداهمها على حين ذكرى.. شيء لا اكتناه له ولا تعرف في القواميس له اسماً.. شيء كما طائر البرق يرخي ريشة من جناحه الأزرق فيّلون الكون بها ويشعلها ثم يمضي تاركاً فيها حرائق اللهفة واندلاع الشوق.. يا لصورته.. يا للظلال الرمادية التي حوت أمامها طيفاً من ندى وحب.. كلما مدت إليها يدها كلما ابتعد في ضباب سحابة الوقت وسرقتها إليه لواعجها.. غارقة في سديمه الفضي مبعثرة بينها وبين نوازعها متمسكة بطيفه على الورق.. تشدها إليه لهفتها المتناثرة بين أشواق المسافة واتساع الحنين.. متقافزة وراءه كطفل يطارد فراشة الربيع الملونة، فلا التعب يهمه ولا الأشواك التي تخدش قدميه..
استفاقت من شرودها على صوت رنين، ركضت باتجاه الهاتف، رفعت السماعة بلهفة وصوته يتردد في أذنها، لكن الرنين استمر، تلفتت حولها كان الرنين قادماً من ساعة المنبه.. تركته لرنينه وخرجت من غرفتها مسرعة تستطلع الجلبة التي ملأت المكان، لتفاجأ بصورته تتصدر خيمة العزاء والمعزون يرددون عبارة “بكّر بالرحيل”.. احتضنت الصورة وعادت إلى غرفتها لتزين الجدران بباقي صوره وهي تناجيه كيف استطاع أن يخلف وعده لها.