أخبارصحيفة البعث

ما هي أسباب الحرص على أصحاب الخوذ البيضاء؟

 

مازن المغربي

بعد تمهيد إعلامي طويل تم تنفيذ خطة إجلاء عناصر منظمة الخوذات البيضاء عبر الحدود مع الجولان المحتل. تمت العملية بتنسيق بين الولايات المتحدة وكندا والأردن وإسرائيل، كما تم تحديد ثلاثة دول، هي ألمانيا وبريطانيا وكندا، لاستقبال المرحلين، وترافق هذا مع حملة إعلامية ضخمة رددت أن وراء هذا القرار دوافع إنسانية بحتة، لكن ما الذي يميز أفراد هذه المجموعة عن عشرات آلاف المرتزقة الذين تركوا ليواجهوا مصيرهم المحتوم؟

عند استعراض التجارب التاريخية نكتشف أن التخلي عن الأشخاص الذي يخونون أوطانهم ويقاتلون في صفوف أعدائه سمة ثابتة في سياسات الدول الكبرى.

حول هذه النقطة كتب المؤرخ الفرنسي ميشيل بودان أنه “وفق الممارسات الاستعمارية القديمة قام الجيش بنهب المخزون البشري المحلي بهدف تنفيذ مهامه بشكل أكثر كفاءة”.

وقد مارست مختلف القوى الاستعمارية هذا الأسلوب. ففيما يتعلق بفرنسا مثلت قضية الحركيين جرحاً لم يندمل حتى الآن – والحركيون هم أفراد من الشعب الجزائري قاتلوا إلى جانب الجيش الفرنسي خلال حرب التحرير الجزائرية 1954 – 1962 – وقبل التسرع في الحكم علي هؤلاء الأشخاص نذكر بأن الانضمام إلى الجيش الفرنسي كان أمرا مألوفا بالنسبة للجزائريين بوصفه وسيلة لكسب العيش والارتقاء الاجتماعي. وخلال الحربين العالميتين شارك عشرات آلاف الجزائريين في القتال ضمن صفوف الجيش الفرنسي، بل إن أحمد ابن بلة أول رئيس للجزائر بعد استقلالها حاز على وسام حربي بسبب بسالته في الميدان خلال معارك الحرب العالمية الثانية. لكن الوضع تغير إثر اندلاع الثورة التي شهدت موجات صعود وهبوط. واعتبارا من عام 1957 لجأت السلطات الاستعمارية إلى تجنيد المزيد من أبناء البلاد بوصفهم قوات رديفة للجيش الفرنسي، وعندما تم التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار، في التاسع عشر من آذار 1962، وفق بنود اتفاقية إفيان، تم تجريد هؤلاء العناصر من أسلحتهم وجرى تسريحهم، وكانت النتيجة تعرضهم لحملات انتقام. ولم يكن مصير الجنود الجزائريين المتطوعين في الجيش الفرنسي أفضل حيث تم منعهم من ركوب السفن مع زملائهم، ولم ينجح سوى عدد محدود منهم في الهرب نتيجة تواطؤ بعض الضباط الفرنسيين الذين خالفوا أوامر الحكومة الفرنسية، حيث أن وزير الحرب الفرنسي بيير مسمر أصدر، في الثاني عشر من أيار 1962، تعليمات بمنع الحركيين من .الوصول إلى البر الفرنسي بما يتعارض مع تعهدات سابقة قدمتها قيادة الجيش الفرنسي. ولم يكن قرار الوزير فرديا حيث أن وزير الدولة المكلف بالشؤون الجزائرية لوي جوكس أرسل بتاريخ السادس عشر من الشهر نفسه برقية طالبت بإنزال العقوبات بكل من يسهل انتقال الحركيين إلى فرنسا. وفي الواقع لم يتمكن سوى 10% من الحركيين من الهرب وترك الباقون ليواجهوا مصيرهم مع عائلاتهم وكانت النتيجة قتل أكثر من ستين ألف منهم.

ولم يكن الوضع مختلفا في الهند الصينية، حيث لجأت القيادة العسكرية الفرنسية إلى تكتيك عرف تحت اسم إضفاء اللون الأصفر على الجيش الفرنسي، وكان المقصود به تجنيد أكبر عدد ممكن من أبناء البلاد بهدف تمكين الجيش الاستعماري من فرض سيطرته على كل أراضي البلاد . وكان لهذا التكتيك مبرراته الاقتصادية والعملياتية، فالجندي المتطوع من أبناء البلاد كان يحصل على راتب أقل بكثير من نظيره الفرنسي، ولا تتحمل الدولة نفقات انتقاله لقضاء إجازة ولا يتسبب موته في مشاكل مع الرأي العام.

وجرت العادة أن يتم زج قوات المجندين من أهل البلاد في الصفوف الأولى، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع نسبة الخسائر بينهم مقارنة مع أقرانهم من الجنود الفرنسيين، وظهر هذا واضحا خلال خطاب إذاعي ألقاه الجنرال لوكريك، عام 1946، وجه فيه تحية لذكرى 1800 جندي فرنسي و6000 جندي من أبناء الهند الصينية سقطوا خلال المعارك ضد الجيش الياباني، ونلاحظ أن نسبة خسائر المجندين من أهل البلاد تجاوزت نسبة خسائر الجنود الفرنسيين بأكثر من ثلاثة أضعاف. كما بينت دراسات المؤرخ بودان أن الفرنسيين لم يشكلوا سوى 29% من قوات الجيش الفرنسي في الهند الصينية في حين شكل أبناء البلاد 30% منه، وكانت باقي الوحدات مكونة من جنود من المستعمرات في أفريقيا. وعندما انسحبت القوات الفرنسية من الهند الصينية تركت الجنود من أبناء البلاد يواجهون مصيرا أسودا.

ومن جهتها مارست الولايات المتحدة دورا مماثلا في فيتنام. أنشأت الولايات المتحدة التي أخذت مكان فرنسا في جنوب فيتنام جهازا إداريا ضخما من أبناء البلاد وبنت جيشا تجاوز عدد أفراده المليون جندي، لكنه لم يستطع الصمود أمام إرادة قوات الشعب الفيتنامي الذي تمكن من فرض انسحاب قوات الولايات المتحدة بعد مفاوضات مضنية، وتركت واشنطن أفراد جيش الجنوب وكبار موظفي الحكومة لمواجهة ما يستحقونه من عقاب، وكلنا نذكر مشاهد كبار موظفي حكومة فيتنام الجنوبية وهم يحاصرون سفارة الولايات المتحدة في سايغون بهدف الحصول على مقعد في الحوامات التي كانت تنقل موظفي السفارة وعائلاتهم وبعض الشخصيات المحددة بدقة إلى مكان آمن، في حين ترك مئات الآلاف من المتعاونين مع الولايات المتحدة تحت رحمة القوات الشعبية المنتصرة.

وبالعودة إلى موضوع أصحاب الخوذات البيضاء لا يمكن للمرء إلا أن يستغرب تحولهم إلى قضية تدفع رئيس الولايات المتحدة للتدخل شخصيا لتخليصهم تحت ذريعة المبررات الإنسانية البحتة. أين كانت هذه المشاعر الإنسانية السامية؟ ولم لم تتحرك ضد الحصار الجائر المفروض على الشعب السوري الذي واجه – ومازال – عدوانا دوليا شاركت فيه كل الدول التي تساهم حاليا في إيجاد ملاذ آمن لمجموعة لا يتجاوز عددها ألفي شخص على افتراض أن كل فرد سيصحب ثلاثة من أفراد عائلته. ولو كان نشاط هذه المنظمة مرتبطا فعلا بعمليات الدفاع المدني لكان من الأجدر نقلهم إلى مناطق تجمع الجماعات المسلحة في إدلب عن طريق تركيا. فالدولة السورية احتضنت كل من رضي بالمصالحة بغض النظر عن الدور الذي قام به خلال الأزمة، وبالتالي يفترض المنطق السليم أن وضع أفراد هذه المنظمة لن يختلف عن أوضاع آلاف المسلحين الذين سلموا أسلحتهم وقاموا بتسوية أوضاعهم.

يضعنا هذا العرض السريع أمام احتمال وحيد: ثمة أمر يسعى البعض للتستر عليه. لقد صار من المعروف ارتباط أفراد هذه المنظمة بالمجموعات الإرهابية، ففي العام الماضي بالتحديد رفضت سلطات واشنطن منح رئيس منظمة الخوذات البيضاء رائد صالح تأشيرة دخول إلى الولايات المتحدة لحضور حفل توزيع جوائز الأوسكار تحت ذريعة ارتباطه بمنظمات إرهابية. يدفعنا هذا إلى العودة إلى جريمة استخدام الأسلحة الكيميائية من قبل المجموعات الإرهابية وتلك الصور المروعة لأطفال مكدسين فوق بعضهم البعض كما لو أن الهجوم استهدفهم بالتحديد وصور أفراد من المنظمة يقومون بعمليات إسعاف وهمية وهم غير مرتدين لأقنعة واقية. إنها فرضية صادمة لكن مرجحة، ويبدو أن أفراد منظمة الخوذات البيضاء قاموا بجمع أطفال من المخطوفين و شاركوا في قتلهم بدم بارد بالتنسيق مع العديد من أجهزة الاستخبارات المعادية، وأي تحقيق جدي في هذا الموضوع سيقود إلى توجيه الاتهام لأفراد من هذه المنظمة بارتكاب جرائم حرب وسيعرضهم للملاحقة من قبل المحكمة الجنائية الدولية، وهذا آخر ما ترغب فيه واشنطن وأتباعها.

يمكن ببساطة تصور السيناريو المقبل: سيتم توزيع أفراد هذه المجموعة مع عائلاتهم على مواقع متعددة بهدف بعثرتهم وسيتم الإيعاز إليهم بعدم التواصل فيما بينهم، وربما تم تغيير أسمائهم وهوياتهم بحجة الحفاظ على أمنهم، لكن المقصود فعلا هو منعهم من الإدلاء بما لديهم من معلومات. ومن المرجح أن يتم لاحقا التخلص من بعض الأفراد، لأنه من غير المنطقي أن تقوم الأجهزة الأمنية بهدر جهودها بهدف حماية مجموعة من الخونة انتفت الحاجة إلى خدماتهم.