ثقافةصحيفة البعث

هل كان مقتل قيصر جريمة شرف؟!

 

“حتى أنت يا برتوس” جملة أصبحت مضرب مثل للغدر وقلة الوفاء منذ أن قالها شكسبير في إحدى تراجيدياته “يوليوس قيصر” وربما منذ أن لفظها يوليوس قيصر قبل مصرعه على أيدي المقربين منه في مجلس شيوخ روما، غير أن عدداً من المؤرخين عالج موضوع مقتل القيصر من زوايا مختلفة للطعنة القاتلة وافترض أن بروتس هو الخائن الأكبر وعليه فقط تقع لعنات الجميع.

ولتوضيح ملابسات الأمر لابد من العودة إلى الظروف المحيطة بالحالة سواء الموضوعية أم الذاتية.

كان قيصر شخصاً قوياً طموحاً سياسياً محنكاً إلى أبعد الحدود انضم إلى المعترك السياسي منذ بداياته حيث كانت عائلته معادية بصورة تقليدية لحكم الأقلية المتمثل بمجوعة من الأعضاء النبلاء في مجلس الشيوخ، انضم إلى الجيش وترقى فيه إلى أن قاد جيشه المعروف كأكثر جيوش روما انضباطاً على الإطلاق، عندما احتضرت الديمقراطية في روما وساد البلاد موجة من الفساد وعدم الأمان فكانت الأحكام القضائية ومناصب الدولة وعروش الملوك الخاضعين لسلطانهما تباع إلى من يدفع فيها أغلى الأثمان، ولم يتورع ذوو الشأن عن الالتجاء إلى الاغتيال والابتزاز فتفشت الجريمة وانتشرت السرقة وظلت الطبقات الفقيرة صابرة تتلهف عودة قيصر فماتت الجمهورية وغرقت روما بالفوضى، وكان قيصر على علم بالمؤامرات التي تحاك له والفخاخ التي تنصب لاقتناصه، وكان يؤلمه أن يكون ذلك هو الجزاء الذي يجزى به على جملة أعماله في خدمة الإمبراطورية بعد مداولات في مجلس الشيوخ كانت جميعها تتجه للتخلص منه ومنعه من دخول العاصمة، أمام هذا الموقف لم يكن له من ملجأ إلا جنوده حيث دعموه وتفانوا في سبيل طموحه، حتى ايطاليا كانت ترى قيصر مخلصاً ففتحت مدائنها أمامه وكثيراً ما خرج السكان عن بكرة أبيهم ليحيوه ويرحبوا به وقد كتب شيشرون عن ذلك إن المدن تحييه كأنه إله معبود، دخل روما ونصّب نفسه قائداً أعلى بعد أن هرب بومبي، سيطر على الفتن وأخمد الحروب الأهلية وحقق انتصارات واسعة خارج روما وحين قرر العودة وعلم أشراف روما بخبرها عقدوا النية على قتله مع أنه كان قد عاملهم معاملة كريمة حيث عفا عن كل من استسلم من أعدائه، ولم تشمل إعداماته سوى عدد ضئيل من الضباط الذين خانوه للمرة الثانية، بعد أن صفح عنهم في المرة الأولى هذا التسامح والأريحية لم يشفعا له عند بعض الأشراف في مجلس الشيوخ سيما أن بينهم الخطيب المعروف شيشرون ومما زاد الأمور عدائية انتشار الشائعات أثناء زياراته المتكررة للملكة العظيمة الجميلة كليوباترا حيث أكدت تلك الشائعات أن قيصر يريد أن ينصب نفسه ملكاً وأن يتزوج منها وأن ينقل عاصمة دولتهما المتحدة إلى بلاد الشرق إضافة إلى إجراءات أخرى مثل إقامة تمثال له على الكابيتول بجوار تماثيل ملوك روما الأقدمين، وطبع صورته على النقود الرومانية وفوق ذلك لم يكن يكّن احتراماً لشيوخ روما الذين لم يحبوا أن ينادى به ملكاً في يوم من الأيام، ومع كل هذه الأسباب والمشاعر الخفية المليئة بالحقد بدأت المؤامرة لقتل قيصر، فتآمروا عليه وكان رأس الحربة فيها كاسيوس الذي عرض خطة اغتيال القيصر على جماعة من الشيوخ وعلى بعض الممولين وأيضاً على بعض القادة في جيش قيصر نفسه الذين أحسوا بأن ماحباهم به من المناصب والغنائم كان أقل مما يستحقون، لكن المتآمرين كانوا بحاجة إلى شخص ليكون رافع لواء المؤامرة، وليعطي تبريراً وشرعاً لما سيفعل، فكان الاختيار على بروتس لشهرته بأنه أعظم الناس استمساكاً بالفضيلة، وقد لاقى الموضوع هوى في نفس بروتس بالرغم من أفضال قيصر عليه ومعاملته له كابن، هذا ما كان يحاك من وراء الكواليس وهكذا قدم قيصر على أنه القائد الجبار وصاحب العزيمة والشرف ولقوته أراد البعض تدميره، بغض النظر عن البقية وأهوائهم، إلا أن بروتوس كان وحده يملك السبب المشرف لقتل قيصر على الرغم من أنه اعتبر لفترة ابنه لأن قيصر كان عشيق أمه فترة ولادته، ولهذا كان يحقد على قيصر فهو أفسد أخلاق أمه وجعله مضغة في أفواه الرومان، وكان هو على الدوام مكتئباً يميل إلى الصمت وكأن ظلماً حل به، في الوقت الذي كان فيه فخوراً بنفسه فقد كان يجيد اليونانية ويحب الفلسفة وفي الأخلاق من أتباع زينون والمدرسة الرواقية التي ترى من واجبها الوقوف في وجه الطغاة والمستبدين، فكانت قلة أخلاق قيصر مع والدته سبباً كافياً في محو عار الجريمة التي سببت ألماً كبيراً عند بروتس، تضافرت عليه الطعنات من كل حدب وصوب، إلى أن لمح بروتس قادماً نحوه وتفاءل خيراً بقدومه غير أن بروتس خيب آماله وأهداه الطعنة الأخيرة فقال له “حتى أنت يابروتس”، وبحسب المؤرخ اليوناني فلوتاخرس أن بروتس وقف على جثة قيصر وقال لم أقتله لأن حبي له قليلاً ولكن حبي لروما كان أكثر كثيراً.

لم ينظر أحد إلى أن قيصر كان استبد بالسلطة وأنه المنتصر الذي وصل إلى سدة الحكم استطاع أن يزيح أعدائه ويفرض نفسه بقوة ويكون قيصراً، سجل التاريخ انتصاراته وترك لبروتوس وصمة الخيانة التي ظلت عالقة به،هل بروتس الذي دافع عن الشرعية ومبادئ الجمهورية التي تربى عليها ووقف ضد حكم الفرد الأوحد ورفض الاستبداد والإنفراد بالقرار هو الخائن؟! أم ذلك القيصر الذي نصب نفسه الحاكم بأمره وبيده السلطة، لقد أخذت المؤامرة طريقها إلى التنفيذ وجميعهم مشاركون في عملية القتل، وجميعهم لهم مآرب في السلطة والثروة ربما كان بروتوس الوحيد الذي كان له سببا مختلفا فكانت طعنته أكثر وجعاً.

عُلا أحمد