دراساتصحيفة البعث

الهجرة والهوية الوطنية.. الأوروبيون والبحث عن الذات

 

ترجمة وإعداد: عناية ناصر

يسعى الأوروبيون من الشرق إلى الغرب للإجابة عن سؤال وطني جوهري: من نحن؟.. قبل خمس سنوات، لم يكن إلا قلة يتوقعون أن تنتقل أوروبا خلال هذا الوقت القصير من حالة التفاؤل النسبي بشأن المستقبل إلى حالة التغيير الحالية، فاليوم تبدو المستويات الحالية من عدم اليقين وعدم الاستقرار في أعلى مستوياتها منذ نهاية الحرب الباردة، وتيارات التمرد الشعبوية تزداد، معيدة رسم الخارطة السياسية في بلد بعد بلد، في ألمانيا، لايزال مستقبل الحكومة الائتلافية للمستشارة أنجيلا ميركل مهتزاً، حيث يهدد حزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي البافاري الحكومة بالتخلي عن سياسة الهجرة، وفي فرنسا لايزال ايمانويل ماكرون يظهر حماس الشباب للتغيير، لكن قدرته على التأثير في الوضع الراهن محدودة في أفضل الأحوال، أما المملكة المتحدة التي تتطلع إلى الداخل أكثر من أي وقت مضى، والتي تعمل من أجل إتمام عملية البريكست، فقد وضعت مسافة كافية بينها وبين الاتحاد الأوروبي لجعلها لاعباً خارجياً بشكل متزايد، وفي دول اسكندنافيا، ودول البلطيق، وبولندا، ورومانيا، فإن القلق البارز هو الأمن في ضوء استمرار تعزيز الجيش الروسي قوته على طول الجناح الشرقي، والأهم من ذلك كله، فإن احتمالية انفجار الاقتصاد الايطالي تلقي بظلالها على أوروبا أكثر من أي وقت مضى!.

تصاعد عدم الاستقرار التدريجي في أوروبا بسبب استمرار تدفق الهجرة من جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يؤثر على القارة، وعلى نحو أبعد من الضغوط الأولية على البنية التحتية، والقدرة التنظيمية للبلدان المستقبلة، ففي أوروبا، برزت موجة هجرة قوية منذ عام 2015، على الرغم من الانقباضات والتدفقات وعمليات إعادة التوجيه، حيث تتغير الطرق، وتسعى الحكومات إلى تأمين الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي، “بما في ذلك قرار الحكومة الايطالية الأخير إغلاق مرافئها أمام القوارب التي تجلب المهاجرين”، وشكّلت هذه الموجة المحرك الأقوى في التغييرات التي تعيد تشكيل أوروبا على مستويات، وتتراوح من تكوينها العرقي والديني إلى سياساتها، ما يشكّل تحدياً للأفكار التي تمثّل جوهر المعاملة بالمثل، والتبادلية في الالتزام المجتمعي.

تبدو أوروبا اليوم منقسمة حول الهجرة إلى قسمين، فالديمقراطيات ما بعد الشيوعية، لاسيما المجر وبولندا، تعارض أي مخطط يسمح بدخول المهاجرين وإعادة توطينهم في بلدانها، بينما يستمر المهاجرون في القدوم إلى أوروبا الغربية، حيث انقلب القبول العام لتدفق المهاجرين في بداية الأمر إلى موجة متزايدة من الاستياء والغضب بسبب التكلفة، وزيادة خطر الإرهاب، والقلق من كيفية إعادة الهجرة الإسلامية في تشكيل القارة إلى حد كبير، ووفقاً لاستطلاع أجرته “مؤسسة بيو” في أيار الماضي، فإن 42٪ من الأوروبيين في 15 دولة يعتقدون أن الإسلام لا يتوافق مع ثقافتهم وقيمهم الوطنية، ويعتقد 53٪ بأن وجود خلفية عائلية من ثقافتهم الوطنية أمر ضروري ليعتبر جزءاً من الأمة، باختصار، لاتزال الهوية المسيحية السائدة في بعض البلدان هي المعلم الديني والاجتماعي والثقافي لأوروبا.

وعلى الرغم من عقود من السياسات متعددة الثقافات على مستوى النخبة، والامتداد الليبرالي على نطاق واسع للتعاقدات الاجتماعية عبر ديمقراطيات أوروبا، إلا أن التراث المسيحي التاريخي لأوروبا، حتى ولو تم تحييده في بعض الأحيان، يظل مهماً لتشكيل الهوية الوطنية عبر القارة.

وبما أن ألمانيا وتطورها السياسي سيكونان حاسمين لمستقبل المشروع الأوروبي، فإن الأمر يستحق التفكير في كيفية إعادة اصطفاف المواقف الألمانية العامة والسياسية قبل أن تضرب موجة الهجرة الأحدث والأكبر ألمانيا.. أظهر استطلاع للآراء أجرته مؤسسة “فريدريش ايبرت- ستيفنغ” عام 2010 استياء متزايداً من الأجانب، وفي العام نفسه أعلنت أنجيلا ميركل أن التعددية الثقافية “فشلت بشكل كامل”، وأنه كان يتعين على القادمين الجدد أن يندمجوا بشكل أكبر في المجتمع، ووجد الاستطلاع أن 58 في المئة عبر ألمانيا أرادوا فرض قيود على المسلمين في ممارسة شعائرهم، حيث بلغت في ألمانيا الشرقية 75 في المئة، في هذا السياق، أدت الصدمة التي تلقاها الجمهور الألماني من خلال موجة الهجرة 2015- 2016 إلى إعادة ترتيب السياسات في البلاد بشكل كبير، فحزب “البديل لألمانيا” هو حزب قضيته الوحيدة مناهضة الهجرة التي لم تكن موجودة منذ ست سنوات، هو اليوم ثالث أكبر حزب في البوندستاغ، وعلاوة على ذلك، فإنه في حال سقوط حكومة ميركل الحالية وإجراء انتخابات مبكرة، من غير المستغرب أن ينتقل حزب البديل لألمانيا إلى المرتبة الثانية.

لقد أصبحت النخب السياسية في أوروبا مدركة على نحو متزايد مدى إلحاح النقاش حول الهجرة، وأن يكون مغزاه بشكل كامل تقريباً منصباً على أن “حل” المشكلة يكمن في تمكين وتحويل فرق تدخل سريع من حرس الحدود “فرونتكس”، للدفاع عن الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي، وتخفيض المكاسب الاجتماعية للمهاجرين للحد من عوامل الجذب والاستثمار في التنمية الاقتصادية في الدول الفقيرة، لكن الشيء الغائب هو مناقشة السؤال الأكبر حول ما الذي يشكّل “المعايير الداخلية”  لإنشاء رابطة وطنية داخل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي عبر أوروبا، فالأيديولوجية الماركسية الجديدة التي عكستها معظم الحوارات السياسية والإعلامية على مدى العقود الأربعة الماضية، والتي تتبنى “الهويات السياقية”، والنسبية الثقافية، والتعددية الثقافية، هي في نهاية المطاف عاجزة عن مواجهة الشعور العام الصاعد، والتركيز حول إعادة تأكيد السمات الوطنية، إذ يرفض عدد متزايد من الأوروبيين الاعتقاد السائد بين النخب الليبرالية بأن المؤسسات سوف تتغلب على الثقافة بمرور الوقت، أي أن الاختلافات الثقافية بين المواطنين والقادمين الجدد يمكن أن تهذب من قبل المؤسسات،  ويبدو أن هذا الرفض مرتكز على الرغبة في الدفاع عن الحجة القائلة بأن الثقافة الوطنية في نهاية الأمر طريقة للحياة، وهي أكثر أهمية عندما ينظر إليها على أنها معرّضة للخطر.. إن الطابع الثنائي في جوهره الوجودي للصراع حول مستقبل أوروبا يجعل الأزمة السياسية الحالية أكثر إلحاحاً، ونتيجة لذلك، تجد الحكومات في جميع أنحاء الغرب نفسها، وخاصة تلك التي لها تاريخ طويل في الديمقراطية، أنها غير قادرة على التحرك بشكل كبير عندما يتعلق الأمر بوقف تدفق الهجرة، كما أنها تعاني من الشلل عندما يتعلق الأمر بمخاوف الأعداد المتزايدة من الناخبين الغاضبين.

إن التغيير الحاد والمستمر الذي يؤثر في الهوية السياسية قد انعكس في النظم التعليمية، ووسائل الإعلام، واستيعاب سياسات الهوية في السياسات الفعلية في جميع أنحاء الغرب يجعل من الصعوبة بمكان أكثر من أي وقت مضى تأطير السجال حول مستقبل أوروبا، وحول المفاهيم الكلاسيكية للمواطنة الفردية، مع واجباتها وحقوقها، وهذا بدوره يؤدي إلى إجماع أوسع حول ما يجب أن تعنيه الهوية القومية الحديثة في الدول الديمقراطية الغربية التي من الصعب الوصول إليها،
ولعقود من الزمن، كانت الهوية المدنية المتميزة عن سياقاتها الوطنية والثقافية هي المقدس للنخب في جميع أنحاء الغرب، لقد أظهر التغيير في السياسة الأوروبية التي أحدثتها الهجرة أن فكرة الديمقراطية لا يمكن “تجريدها” إلى درجة أنها أصبحت متماهية تماماً في سياقها الوطني والتاريخي، وفي مواجهة الواقع القاسي للهجرة الجماعية، مع وجود اختلافات تنموية واضحة بين المجتمعات، أُجبر الأوروبيون على طرح قضية كيفية تعريف حدود الأمة ومركزها، فلم تعد التعددية الثقافية ببساطة حالة نهائية، والتي كانت دائماً ملتبسة، بدلاً من ذلك، أصبح ثمن السياسات النسبية الثقافية الآن قابلاً للقياس الكمي بشكل مؤلم.

تحتاج أوروبا للبدء بمعالجة مشكلة الهجرة إلى استراتيجية ذات شقين: أولاً، تحتاج إلى وقف موجة التدفق، بما يتماشى مع مقولات: إذا طفح الوعاء تغلق الصنبور، قبل أن تبدأ مناقشة الخطوات التالية التي ينبغي اتخاذها، ثانياً، يتعين على قادة أوروبا ووسائل الإعلام استبدال الاتهامات والسباب، وتوجيه الأنظار بالحوار المنطقي حول تحديد القضايا العامة غير القابلة للتفاوض بشأن المواطنة التي تعكس الهوية الوطنية، ومن ثم صياغة السياسة وفقاً لذلك.. إن جميع الثقافات تتطور، لكن الأمر متروك لأفراد المجتمع لتحديد سرعة وظروف التغيير، ولتحديد الأسس الثقافية الرئيسية التي تشكّل الإحساس المشترك بالهوية الوطنية، لا يمكن لأي كم من الهندسة السياسية، مهما كانت حسنة النوايا، تجاوز المبدأ الرئيسي، المتمثّل بأن الأمة يجب أن تكون كما يريدها أبناؤها، حتى في مرحلة  ما بعد الحداثة في أوروبا، حيث تتسرب البنائية والنظرية النقدية إلى عدد متزايد من التخصصات الأكاديمية، يبقى الإحساس بالانتماء إلى مجتمع قومي أكبر أقرب “لأمة المدينة”.

لا يمكن أن يكون هناك بديل عن الإجماع الوطني، على أن المواطنة تتطلب أكثر من قبول مبدأ الديمقراطية بصورة مجردة، ودون ذلك، ستنشأ مجتمعات موازية، ما يؤدي في نهاية المطاف إلى تفتيت الدولة على أسس عرقية ودينية، ومع إعادة تنظيم الهجرة في المجتمعات الغربية، تظل وظيفة “الدولة الأمة” الدولة أكثر أهمية اليوم من أي وقت مضى منذ نهاية الحرب الباردة، والتفكير في غير ذلك هو السماح باستمرار الانحلال الحالي للنخب العامة، مع خطر أن تبدأ الروابط التأسيسية التي حددت الديمقراطيات الغربية بالتحلل.