رأيصحيفة البعث

فاسد وفساد وما بينهمــــا؟؟

محاربة الفاسدين لا تعني مطلقاً مكافحة الفساد، وإن كانت جزءاً لازماً منها، فهي نتائج وليست أسباباً، ومعالجة النتائج غالباً تكون صعبة ووعرة المسالك، كما أنها قليلة الجدوى، لأن “مكنة التفريخ” مازالت تعمل، وهذا أخطر ما في مثل هذه المهمة الحسّاسة.

ولا بأس أن تكون الحكومة قد أعلنت بالأمس عزمها على جولة حامية مع الظاهرة وتجلياتها، بشخوصها وممارساتهم، ففي الإعلان ضمان لعدم التراجع والانكفاء، لأن التجارب الكثيرة السابقة في هذا الاتجاه كانت محبطة بالفعل، وربما من هنا جاءت طريقة التلقي “الرخوة” والصدى المشتت شعبياً بخصوص النيات الرسمية الجديدة.

الحقيقة أن المهمة لا تبدو سهلة على الإطلاق، لأنها لا تُنجز بمحاسبة من سنتوافق وفق معايير شفافة على أنهم فاسدون، بل ثمة شطر أهم يتعلّق أولاً بالذرائع، وثانياً بالبيئة التشريعيّة غير المُحكمة أو الصادّة لممارسات الفاسدين، وثالثاً بثقافة الفساد التي تبدو هي الأخطر في سياق هذه السيرة، لأنها لا تقتصر على أبعاد مالية واقتصادية، بل تتعدّاها إلى صلب المضمار الاجتماعي المنتج – الشريك للظاهرة بـ “التكافل” مع الميدان التنفيذي.

في هذه المسارات المتشعبة والمعقدة تبدو الإحداثيات المفترضة لإنجاز مهمة مكافحة الفساد، وتجاهل أي منها سيؤدّي إلى حالة انعدام توازن واضحة، من شأنها أن تتوعّد مجمل المشروع بالفشل على المدى الطويل.

فعلى التوازي مع المحاسبة المزمعة التي قد تبدأ بمعالجات عمودية، لا بد من توطئة فعلية لما يمكن أن نسميه تطبيقات مبدأ سدّ الذرائع، وعلينا ألّا نستهين بهذه الحيثيّة المتعلّقة بالموظف الصغير في قوام منظومة الفساد، إن صحّ التعبير، وهذا يقودنا إلى التشريعات والقانون الأساسي للعاملين في الدولة “القانون 50” الذي اتفقنا على أنه أنتج بيئة جديدة للفساد الإداري، عندما حدد سقوفاً “صماء” للرواتب ولم يميّز في العلاوات بين طبيعة عمل وأخرى.

وفي سياق التشريع والأولويات المستحقة لتنقية البيئة من الثغرات المؤدّية إلى مطارح الفساد، لا بد أن نصطدم بنظام العقود رقم 51 الذي “افتضح أمره” كمظلّة واقية ومحصّنة لممارسات الفاسدين في إطار عقود القطاع العام، ويدرك الجميع أن معظم حالات الفساد تمر من خلال هذا القانون الذي لم يُعدّل حتى الآن؟!.

أما المسار الثالث والمتعلّق بثقافة الفساد، فهو الأكثر تعقيداً في الواقع، ويحتاج إلى استراتيجية مديدة الأجل تتولاها الحكومة بمؤسساتها، إضافة إلى كل القوى المجتمعية المؤثّرة في التنشئة التربوية وتوليف الرأي العام.. ويمكن كبداية أن نعتمد أسلوب المواطن المحلّف بمعايير دقيقة ومدروسة، وقد حقق من جربوا ذلك نجاحات كبيرة أخّرت بلدانهم على قوائم الدول الأكثر فساداً، ويتلخص مفهوم المواطن المحلّف باختيار أشخاص وتكليفهم بمهام “رقابة شعبية” في أحياء المدن وفي الأرياف البعيدة، لأن ممارسة الفساد الظاهر في الأوساط الشعبية، تتكفّل بتنشئة جيل فاسد ممن راقبوا وعاينوا مجريات جانحة، تحوّلت إلى سلوك تقليدي مقبول ومُظرّف اجتماعياً، وهذه لن يحلها إلا “المواطن المحلّف” كخيار ردعي ريثما يبدأ الخيار التوعوي بالفعالية والتأثير.

بكل الأحوال تبدو مكافحة الفساد مهمة مجتمعية وليست حكوميّة خالصة، فإن كانت الحكومة مكلّفة قيادة المشروع لا يعني أن المواطن في حلّ منها، لأنه صاحب النصيب الأكبر من الأذية والضرر المادي الذي يتسبب به الفساد كرقم إجمالي، ولو قسّمنا تكاليف الفساد على عدد المواطنين في بلدنا، سيكون الرقم صادماً، ويكفي لأن نعيش جميعاً في بحبوحة، في بلد متنوّع بموارده وغني بعائداته المفترضة من دون فساد.

ناظم عيد