دراساتصحيفة البعث

الحرب التجارية الخاسرة مع الصين

ترجمة: علاء العطار
عن موقع “كمون دريمز” 28/7/2018

“عندما عملت مراسلاً في الصين عام 1980، كان عدد الدراجات الهوائية يفوق عدد السيارات في شوارع بكين الكبرى، وكان أطول مبنى في المدينة عبارة عن فندق مكوّن من 25 طابقاً، وزرت قرية صغيرة لم يكن فيها سوى تلفاز واحد بالأبيض والأسود، كان يشاهده الجميع ليلاً”.
واليوم اكتظت المدن الصينية الكبرى بالمصانع الحديثة وناطحات السحاب وشبكات النقل العام الكبيرة، وأدّى “اقتصاد السوق الاشتراكي” الخاص بالحكومة الصينية إلى ازدهار غير مسبوق، وباتت الصين الآن ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة.
تنظر إدارة ترامب، والعديد من الديمقراطيين رفيعي المستوى، إلى الصين كمنافس شرير، ويزعمون أن الحكومة الصينية تدعم، بصورة غير عادلة، صناعاتها المحلية وتسرق الملكية الفكرية الأمريكية، لذا شنّ ترامب حرباً تجارية ضخمة عليها.. وأعتقد أنه سيخسر.
فرضت الإدارة رسوماً جمركية على منتجات صينية بقيمة 34 مليار دولار، وهدّدت برسوم على بضائع بقيمة 500 مليار دولار، وردّت الصين الضربة بمثلها، ففرضت تعريفات جمركية تستهدف المناطق المليئة بمؤيدي ترامب.
واقترح ترامب الآن دفع 12 مليار دولار من الإعانات الحكومية للمزارعين ومربي الماشية المتأثرين سلباً بالحرب التجارية، لكن خسائر فول الصويا هذا العام وحده بلغت نحو 12 مليار دولار، وفقاً للسيناتور بنجامين ساس.
وانتقد العديد من الجمهوريين في الولايات التي تعتمد على الزراعة تلك الإعانات، وقال السيناتور بوب كوركر: “السياسة المتّبعة سيئة لدرجة أنها توصل المزارعين إلى درجة الفقر، ثم تضعهم على حافة الرفاهية.. من الصعب تصديق عدم حدوث تمرد حالياً في الكونغرس”.

من يتحكم بالتنمية الاقتصادية؟
أثناء زيارتي الأولى عام 1980، كانت الصين دولة منعزلة مع عدد شحيحٍ من الزائرين الأجانب، ولم يكن هناك أي استثمار أجنبي، وكان عشرات الناس يتوقفون في الشارع ليحدقوا بي وبالغربيين الآخرين، لم يرَ الناس أجانب من قبل حتى في مدينة كبيرة مثل بكين.
أدرك المسؤولون الصينيون أن البلاد ستحتاج إلى مساعدة خارجية لتحديثها، وحاولت الشركات الأمريكية والأوروبية واليابانية فرض نموذج العالم الثالث التقليدي على الصين، وأرادوا جلب الآلات والتكنولوجيا، وجعل العمال الصينيين يجمعون أجزاءها، ثم تقوم الشركات الأجنبية ببيع المنتجات وكسب الأرباح.
وطالبت الإدارات الأمريكية المتعاقبة بـ”التجارة الحرة”، لكن عنى هذا أن تتصرف الشركات الأمريكية بحرية في بيع منتجاتها إلى السوق الصينية، وفي اعتراف نادر بالذنب، أوضح مقال تحليلي نُشر في صحيفة “نيويورك تايمز” أنه “تمّ تأسيس نظام التجارة الحرة العالمية كنوع من الفوز الدائم للولايات المتحدة، واستثمر الانفتاح الحجم والنمو الكبيرين للاقتصاد الأمريكي بشكل يتيح لسلعه وخدماته بالهيمنة دولياً”. لكن الصين لم تلعب بالقواعد القديمة واتخذت خطوات لحماية سيادتها، واضطر المستثمرون الأجانب إلى الدخول في شراكة مع الشركات الصينية ومشاركة التكنولوجيا خاصتهم، وحتى قبل بضعة أشهر مضت، كان بإمكان الأجانب امتلاك ما لا يزيد عن 49% من الشركة، مع ضمان أن تتحكم الصين بالقرارات الاقتصادية المهمّة، ولم تكن الشركات الأجنبية مسرورة بهذا الترتيب، ولكنها وافقت من أجل الوصول إلى السوق الصينية الكبيرة.
وأشار كوتز “خلافاً لمعظم الدول النامية، لا تستطيع حكومة الولايات المتحدة أن تفرض إرادتها على الحكومة الصينية لتسمح للشركات الأمريكية بالقيام بما تشاء”.
ركزت الصين في البداية على الصناعات منخفضة التكلفة والتكنولوجيا البسيطة، فصنعت قمصاناً وألعاباً بلاستيكية، لكنها أصبحت تصنع بمرور الوقت سيارات وحواسيب وإلكترونيات وهواتف خليوية والعديد من الصناعات الحديثة الأخرى.
زرت عام 2008 محطة ضخمة لاستغلال طاقة الرياح تقع في صحراء شاسعة في غرب الصين، كانت الجبال المنخفضة تلوح في الأفق، وكانت الرياح تكتسب سرعة كبيرة، وقامت شركة صينية بتصنيع وتركيب 280 من توربينات الرياح الحديثة، وطورت الصين صناعة الطاقة الخضراء في وقت تنكر فيه حكومة الولايات المتحدة وجود تغيّر مناخي من صنع الإنسان.
ويقول منتقدو الصين إنها نجحت لأن الحكومة دعمت الصناعات المنتخبة، وماذا في ذلك؟ تتلقى الأعمال الزراعية الأمريكية مليارات الدولارات من الإعانات الحكومية، والعديد من صناعات التكنولوجيا المتقدمة الحديثة في الولايات المتحدة -من الأقمار الصناعية إلى الإنترنت- تمّ تطويرها في الأصل من قبل الحكومة الأمريكية ثم تم تسليمها إلى مؤسسة خاصة مجاناً، ويستلم أصحاب المصانع في الولايات المتحدة إعفاءات ضريبية هائلة بانتظام ليبنوا مصانعهم في ولاية معينة.
لا آبه البتة ما إذا كانت الحكومة تدعم صناعات معينة، وإنما أريد أن أعرف من يستفيد من تلك الإعانات: أصحاب الشركات الأثرياء أم الأشخاص العاديون.

سرقة الوظائف؟
انتقلت العديد من الشركات الأمريكية في العقود الأخيرة إلى الصين وإندونيسيا ودول أخرى في العالم الثالث، وهم يبحثون عن أرباح أكبر من خلال دفع أجور أقل والوصول إلى الأسواق المحلية. وقال كوتز إن الوظائف الأمريكية في صناعة الملابس والمنسوجات، على سبيل المثال، لن تعود إلى الولايات المتحدة لأن “الأجور الأمريكية لن تنخفض إلى مستويات الأجور في العالم الثالث”. لكن بإمكان حكومة الولايات المتحدة تعزيز السياسات التي من شأنها توفير وظائف ذات أجور جيدة بالنسبة للوظائف الإدارية والعمالية، ويقترح كوتز أربعة مقومات:
· برامج الوظائف الحكومية لتوظيف العمال بأجور المعيشة.
· النهوض بالاقتصاد الأخضر باستخدام الطاقة المتجددة والكفاءة في النقل الجماعي وتشييد المباني المقتصدة في استخدام الطاقة.
· تمويل إعادة تدريب وتعليم العاملين بشكل جيد لأولئك الذين خسروا وظائفهم بسبب انتقال شركاتهم إلى الخارج.
· زيادة الحد الأدنى للأجور إلى مستوى الأجر المعيشي.
ليس هناك سوى فرصة ضئيلة لتبني هذه السياسات في أي وقت قريب، وسيتطلّب الأمر الكثير من الضغوط الشعبية، ناهيك عن هزيمة الجمهوريين في تشرين الثاني، لكن هناك أمر مؤكد: أن شنّ الحروب التجارية مع الصين والاتحاد الأوروبي وكندا والمكسيك لن يؤدي إلا إلى تردي الأوضاع بشكل أكبر بالنسبة للجميع.