تحقيقاتصحيفة البعث

في عصر الأنترنت.. تراجع في عـدد القراء مقاطعــة للكتـــاب.. وابتعـــاد سـلبي عن جوهـر المعرفــة!

 

الجلوس على ضوء الشموع وأمامك كتاب مفتوح في حوار مع أشخاص، مع أجيال لم تعاصرهم، هي المتعة التي ليس لها مثيل، هذه المقولة للفيلسوف الياباني “فوشيد كيندو”، لم تعبّر عن أهمية القراءة في حياتنا، بل عن المتعة الحقيقية التي يشعر بها القارئ، إذ ينتقل بين الأزمنة والأماكن بكل مرونة، ويحاكي عوالم لا تستطيع التكنولوجيا بكل حداثتها وتطورها إيصالك إليها، القراءة مستمرة رغم المنافسة القوية التي تواجهها من تطور التقنيات الرقمية، وما سببته من سهولة الحصول على المعلومة عبر مواقع الكترونية، حيث يستطيع أي شخص أن يصل إلى كل ما يرغب بمعرفته دون بذل أي جهد أو تكلفة، وهذا ما جعل البعض يعتقد أنها حالة تقليدية لاكتساب المعرفة والعلم، وباتت غير مستحبة من الجيل الجديد!.

مواجهة
لم تعد مشكلة الابتعاد عن الكتاب وعدم القراءة مرتبطة بمجتمع معين، فهي ظاهرة أصبحت منتشرة في كل أصقاع الأرض، وهي مرتبطة فقط بفئة من الطلاب الأكاديميين الذين لديهم الرغبة في الحصول على معلومات نادرة ودقيقة، يرى دكتور قسم المكتبات مصطفى أسعد أن التطور التكنولوجي والرقمي لا يمكنه استبعاد دور الكتاب في حياتنا، ليس فقط بالنسبة للأكاديميين، بل حتى للأشخاص العاديين الذين ليس لديهم مشروع علمي، رغم الكم الهائل للقنوات الفضائية التلفزيونية، أو مواقع التواصل الاجتماعي التي قدمت نسبة كبيرة من الاهتمام بالأفكار والمعلومات السطحية تحت تسمية “صيحات العصر”، حيث أدت إلى جهل نسبي، وأبعدت متابعيها عن دائرة تنمية العقل بالاطلاع.

الجيل الذهبي
إن العزوف عن القراءة يعود إلى تراجع الوعي بأهميتها في تشكيل العقل، وتنمية طرائق الفرد في التعبير عن نفسه، ونظرته للآخر، يقول أسعد: إن الابتعاد عن التزود المعرفي عن طريق المطالعة لا يرتبط بالتطور العلمي، وما وصل إليه الإنسان من تقدم في العلوم التكنولوجية، لكنه مرتبط بشكل كبير بتغير العادات الراسخة التي شكّلت عقلية الجيل الذهبي من المبدعين على مستويين: الأول في نخبة من الذين أنتجوا أدباً قيماً، والثاني يتعلق بالقراء الذين لديهم هاجس القراءة، ويتابع أسعد بأن هذا الجيل أثقل نفسه بالاهتمام المبالغ بمقتضيات العصر، وابتعد عن الجوهر الحقيقي للاستمتاع الروحي والمعرفي المتعلق، واعتبر أن الاستغراق في تأمل معاني الكتاب وأفكاره شكّل من الأشكال التقليدية التي لا تتناسب مع عصر السرعة.
إهمال
تعتبر القراءة عاملاً من عوامل تشكيل الشخصية الفردية، والوعي بالثقافة العامة، والتطور بالعموم، دكتورة الاجتماع مها الحسن ألقت تهمة العزوف عن القراءة على المجتمع بكل مكوناته في تشكيل المعرفة الحقيقية لأهمية الكتاب، وأخذ المعلومة منه، وعدم إهماله، وهذا ما يتطلب المناقشة بشكل علمي من أجل الوصول إلى حلول تفضي إلى نتائج تسهم في تحفيز أفراد المجتمع للعودة إلى الكتاب، وتحديد أهم الأسباب التي أبعدت هذا الجيل عن القراءة، وسببت فقدان المعرفة في مجتمعاتنا، وهددت الفكر بالتشتت والاتكاء، وأصبح من الضروري، بحسب الحسن، العودة إلى زمن القراءة، وإلزام الطلاب في جميع مراحلهم التعليمية بالمطالعة لتعزيز حبهم للمعرفة، والتزود بالثقافات المختلفة، والتأكيد على أن القراءة وسيلة مهمة تمنح العقل نموه، واكتماله، وحضوره، وتتيح للمرء الفرصة في أن يحرك الفكر، ويتعرف على تجارب الأفراد والشعوب، ولا يمكن استبدالها أو الاستغناء عنها رغم معاناتها في الوقت الحالي.

عادات مستحدثة
الإغراء التكنولوجي لهذا العصر وما أنتجه من عادات مستحدثة لا يستطيع إحداث تغيير جذري في طبيعة القارئ، وتضيف الحسن: لا يمكننا تعليم أبنائنا القراءة بمجرد توفير الكتب لهم، وحثهم على القراءة، خاصة أنهم ينشؤون في مجتمع لا يشاهدون فيه قراء باستثناء قراءة الصحف والمجلات، بالإضافة إلى استحواذ وسائل التواصل الاجتماعي على الجميع، لذلك يجب أن نغير أحوال أبنائنا، وندفعهم للقراءة عبر تغييرنا لعاداتنا وسلوكنا، إذ لا يمكن أن ندفعهم للقراءة بمجرد أن نطلب منهم ذلك، في حين أننا نحن لا نقرأ، وتؤكد الحسن أن مشكلة تراجع القراءة تعود إلى الانشغال بالأمور المعيشية، والسعي وراء لقمة العيش، وسيطرة التلفزيون والأنترنت، بالإضافة إلى ضعف الوعي بأهمية الثقافة في إعادة العلاقة مع الكتاب لرسم الطريق الوحيد لبناء الإنسان، وترسيخ الهوية والانتماء.

الهدف الأسمى
القراءة عملية عقلية تثري الخيال، وتستثير الفكر، وتوسع المدارك، وتساعد في كسب السلوك المرغوب، كما تدعو للتواصل بين الماضي والحاضر، وبين جميع أفراد المجتمع، وهذا من أهم عناصر ومكونات وحدة المجتمع القائم، وتذكر دكتورة الصحة النفسية والعقلية مارسيل صمودي بأن القراءة نشاط عقلي فكري تدخل فيه الكثير من العوامل، تهدف في أساسها إلى ربط لغة التحدث بلغة الكتابة، وتعتبر القراءة الهدف الأسمى لتربية الفرد على المشاركة الإيجابية الواعية في الحياة، وتوطين النفس منذ الطفولة على السعي المستمر للبحث عن المعرفة حتى يكون مستمتعاً بالعلم، ويقدر قيمة القراءة التي تعتبر مقوماً من مقومات الفكر وسلوكه الراقي، والذي يساهم بدوره في تقدم المجتمع، واكتساب المهارات، وتتابع صمودي: القراءة عملية نفسية اجتماعية تعمل على تكوين الشخصية المستقلة، وتسهم بصورة حاسمة في إعمال العقل، وإعمار الحياة. ­­­­­

ميادة حسن