الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

الطرق على أبواب النسيان المغلقة!؟

د. نهلة عيسى

قررت اليوم التمرد على الزمان السلحفاة, وعزمت على أن أغسل القلق الممض عن جلدي, لأمتلك شجاعة ازدراء الحرب, والقدرة على إشاحة نظري عن الأدراج الرطبة المظلمة التي تقودنا إلى الغد, فالعقل صار ذنباً وعبئاً, ولذلك سأدع قلبي  يتحول إلى دليل سياحي يجول بي ولو ساعة, خارج جذام اليأس وزكام الضجر, ونوبات النقاش السئم, وغير المجدي حول ماذا ولماذا, وكيف ومتى؟ وخارج الكلام المحنط عن أننا وسوف ويجب ولا بد! فالعمر قصير, وقد أضعت منه الكثير في ساعات احتضار طويلة مؤلمة على مدار سبع سنين, لا الوطن فيها تعافى, ولا أنا مت واسترحت!.

قررت التمرد.. لأن حزني فاض, وقد تعبت من المقعد, بل المقاعد التي جلست عليها في غرفة الحرب, لأن الحرب باتت مجرد عادة بائسة أخرى من عاداتنا, ولعبة “روليت” توقعني يوماً بعد يوم في فخ اللهفة والانتظار, وخوفي على الوطن صار أكبر من الحرب ومني, صار كائناً مستقلاً عنها وعني, وعن كل ما أقبله أو أرفضه, وكل ما يمتعني أو يغيظني, فحين تمر الحرب بنا لا يعود أي شيء كما كان, حتى بعد أن تمضي الحرب, ولذلك.. خير طريق للهروب من الحرب, هو السماح للقلب بالتجول عارياً خارج الديكورات والأقنعة, والابتسامات المغمى عليها, أو دفعه ربما لركوب موجة ضالة في بحر ما في قارة منسية, أو حتى القفز كطفل أرعن فوق وجه القمر, أو الجري في عين الشمس, حيث لا يمكن لحرارة الشمس أن تحرق قلباً, هو بالأصل محروقاً!.

قررت التمرد على الزمن المقفر, وعلى تعبئة الوجع في زجاجات معتمة, كمن يخفي جروحه ليحصيها في آخر العمر, ليصير بوسعي أن أحدق في الحرب من خارج الحرب, وبعيداً عن الثرثرة, وأبخرة الجبهات, وهذا على خطأ وذاك على صواب, في الحرب لا شيء حقيقي سوى الجنون, ولذلك استحضر في رأسي لحناً لأبدأ الرقص غير عابئة حتى بتعلم الخطوات, لأنه إن كان للحرب ميزة, فهي أنها تبرر للمرء العيش والنوم دون ذنب على تل البقايا, والمضي “أوتوستوب” مع المجهول دونما حاجة “للتظارف” وادعاء البوهيمية, فآخر مظهر من مظاهر الحضارة (الحلم) يلفظ أنفاسه الأخيرة في بلادنا على  كتف الفاسدين والمدعين وبنادق الإرهابيين!.

قررت التمرد على الحرب, لأنني أمقت أن أكون ضحية, قدر كرهي لأن أكون جلادة, وأعرف أن أبواب نسيانها (الحرب) موصدة, فقد صارت كالهاجس المقيم, ولكني وأنا أقف على جبل من ملايين الحماقات, أقرع أبواب النسيان بصخب يطغى على صوت شخير النسيان, لأتسول الفرح, ولن أعاود الوقوف في دائرة الطباشير لأثبت حبي للوطن, فالثابت لا يتحول, والعارض لن يقيم, وأنا أكره الدوائر والمثلثات, وأحتقر المربع والمستطيل, والخطوط المستقيمة السقيمة, وتثير ريبتي الخطوط المتوازية التي لا تلتقي, ولكنها بنفس الوقت لا تفترق, وتذكرني بتاريخ العرب, حيث كل الدروب تفضي إلى وراء الوراء, والغد مذموم ملعون, لأنه يتطلب الاستيقاظ!.

قررت التمرد على الحرب, فقد سددت لها فواتيري كلها, واشتريت بنزف روحي جبهتي واصطفافي ورفاقي وجروحي, ولم يعد بوسعي  السير في دهاليز المرايا اللامتناهية, حيث يتماهى فيها وجهي مع وجه الحرب, لأنها باتت حكاية, كحذاء سندريلا, ينتقل من قدم لقدم, وتكبر قدم سندريلا ولا يصل إلى قدمها الحذاء, ولا يعثر عليها أمير!.

قررت التمرد على الحرب, لأنني لست بصدد البحث عن موتي القادم, بل عن عيشي القادم, حيث رغم أنف الحرب, سيفتت ضوء الشمس قلب الصخر, وستلثم الأمطار أغصان وأوراق وجذور الأشجار, وسيخرج الشهداء من قبورهم إلى أحضان الأمهات يباركون لهم بالنصر, وسأقف فوق قبر أمي أغني أغنيتها الأثيرة: منرفض نحنا نموت, وستقوم من قبرها أمي.. متأكدة أنا أن أمي ستقوم, فبئساً للحرب!.