ثقافةصحيفة البعث

“النعيرية قريتي”.. سليمان العيسى الذي يضحك الشعر بين يديه

 

 

كان يقف بين الكتب في معرض الكتاب بهدوء واتزان كصاحبه الذي رجفت أصابعه بعضا من رجفاتها الأخيرة فوق تلك الصفحات، التي صاغها الشاعر المجيد “سليمان العيسى”–الذي مرت ذكرى رحيله عن هذا العالم منذ وقت قريب- في كتابه”النعُّيرية .. قريتي”، الصادر عن إتحاد الكتاب العرب، الكتاب الأخير الذي قام صاحب “احكي لكم طفولتي يا صغار”، بتأليفه قبل أن يصير غيمة.
يعود “العيسى”في كتابه الآنف ذكره إلى مطارح لعبه الأولى، إلى الحواكير التي تعلم فوق دروبها الضيقة، كيف يهجي طيران العصافير وزقزقتها وهي تَشدُّ الصباح بمناقيرها الصغيرة، إلى بيته بقرميده الأحمر الغافي على كتف نهر العاصي، بيت الطفولة ونداوة القلب، إلى شجرتي التين والتوت، الحاضرتين في الكثير من قصائده، كيف لا تحضران وأولى أشعاره خطها تحت ظلالهما، تقول إحدى قصائده:”كتبت قصائدي الأولى بظل التوت والتين/من العاصي، من الأشجار/ من صوت الحساسين/من موال فلاح يغني في البساتين/سرقت النغمة الأولى بدأت بها تلاويني”.
ستعود أيضا صورة والده،الشيخ الجليل “أحمد العيسى”، معلمه الأول ومعلم أقرانه من الأطفال،أصول اللغة العربية والصرف والنحو وحسن الخط والبيان، وذلك في قرية “النعيرية”؛يقول صاحب “دمك الطريق”: “في الحارة الصغيرة في بيتنا القرميد/عاش أبي يكافح الأيام يا صغار/كان وديعا كنسيم الصيف كالأشعار/ يعلم الصغار والكبار/في بيتنا يعلِّم القرآن والصرف والنحو/ وحسن الخط والبيان/يقاتل بالظلام بالحرف الذي يبين/ وأنا في الدار تعلمت أستاذي الرائع كان أبي جودت على يده القرآن/ وحفظت، حفظت عن العرب قصصا وقصائد كاللهب”.
ستلتمع عيني شاعرنا بوهج له مذاقات الحنين والتين، وهو يستعيد صورة صندوق أبيه ومعلمه، الصندوق الذي كان يحتفظ فيه الشيخ “أحمد” بكنوزه من المراجع العربية الثمينة في الأدب واللغة، كنوز حفظ منها صاحب “أنا ودمشق” الكثير من نصوصها عن ظهر قلب، بالإضافة لإطلاعه على أعداد نادرة من مجلة “الهلال” التي كانت تصدر في مصر، ومجلة “العرفان” التي صدرت في صيدا، ومجلة “المجمع العلمي العربي” في دمشق.
تغفو بهدوء بين دفتي كتاب “النعيرية.. قريتي”ضمة يانعة من الأناشيد والمسرحيات التي كتبها “سليمان العيسى” للأطفال وهي عبارة عن حلقات يبرز الشاعر من خلالها معالم طفولته والأشياء التي رسخت في خياله، كمنزله الذي يقع قرب نهر العاصي، والذي دخل في نسيج مسرحياته الشعرية كثيراً، ناهيك عن المكانة العظيمة التي تظهر لوالده في ضميره وأشعاره، لأن والده كان مثله الأعلى وكان رصيده الاجتماعي والأخلاقي والثقافي، كما أن لوالدته مرضعته من الخلود أيضا، منزلة رفيعة في وجدان صاحب “دمشق حكاية الأزل” فالحب الذي أحاطته به تلك المرأة الأمية البسيطة، فاض في أشعاره ولامس قلبه فبثه للعالم على شكل قصائد تُفرح الروح؛ فلن ينسى كل من قرأ قصائد “العيسى” سواء في مرحلة الطفولة وما تلاها من تقلبات الدهر، النشيد الخالد،”ماما ماما..يا أنغاما”، قصيدة صارت مثلا جاريا على كل لسان، ومن لن يقع الحنان في قلبه موقعا ثقيلا، بعد أن يقرأ القصيدة التالية لصاحب “الديوان الضاحك”: “حلوة الطلعة كانت/تعمر الضيعة حبا/لم تكن تقرأ أو تكتب/كان العلم صعبا/عوضتنا عنه قلبا/يسع الدنيا محبا/إنها ابنة الريف التي لا تتعب/تسجر التنور/ تطهو/ تحطب.
النعيرية التي سيغادرها “سليمان العيسى” بعد ضم لواء اسكندرون إلى تركيا، لن يعود إليها إلا بعد أعوام طويلة، ولمرة واحدة فقط،إلا أنها بقيت في خاطره دارا ووطنا وحلما راوده طويلا، بأن سيرجع يوما لظلال تينته التي أحب، سيعود ليقرأ قسمات السماء وهي تتلو على هضباتها وتلالها الهاجعة في هدأة الزمن صدى قصائد من ألم أيضا، كتبها صاحب “شجرة ندى”، بحبر ألم الفراق، فراق يلونه الحنين والغضب، فملاعب الطفولة والهوى صارت أراضا سليبة: “غنيت تعاسة ضيعتنا/سجلت تباشير الغضب/وحملت إلى الغيم الشكوى/وهتفتُ، هتفتُ: أنا عربي.
صور أليفة لعوالم مسحورة تقفز من العدم إلى شرود يعتريني وأنا لاهٍ بين غوايات قديمة، ما إن يرن اسم الشاعر السوري الراحل “سليمان العيسى” في مسامعي، عوالم غائمة الملامح الآن، لست واثقا لفرط حنيني لها إن كانت حقيقية وموجودة، لكني على يقين غريب، بأنها رغم التباسها، تركت في داخلي كروم فرح وأمان من عهد الطفولة، أعود كالمسرنم لأجني من دانيات قطوفها، مسرات خفية تؤنسني في غربة العمر، انتبه من شرودي عندما يسألني أحد ما: لماذا تبتسم بلا سبب؟ بماذا أجيبه؟ هل أقول له أن عمي منصور النجار، لم ينهِ لي بيت لعبتي بعد، أم أن الأرنب الأبيض مثل النور، يقفز في مروج ذاكرتي الآن؟بعيدا ذهبت في رحابه النبيلة، وأنا اقلب صفحاته وأطالع طفولتي وهي تمر أمام ناظري كمشهد سينمائي يتموج إيقاعه على إيقاع القصائد الأولى،تلك التي علمتني وأجيال عديدة غيري معنى الحلم، ومن منا لم تعلمه أشعار صاحب “أراجيح تغني للأطفال”، الحلم حتى ونحن ننفذ عقوبة في الصف تقضي أن نقف على ساق واحدة ونرفع أيدينا ووجهنا للحائط، في تلك اللحظة تلجأ بعينيك إلى “الصوبيا” المشتعلة في زاوية الصف، وفي خاطرك تطوف ظلال من قمح وزبيب بين قصائد صغيرة تزيح عن كاهلك خزي هذه العقوبة: “يا إلهي يا إلهي/ يا مجيب الدعوات/اجعل اليوم سعيدا/ وكثير البركات/ مالئا بالحب صدري وفمي بالبسمات”.
تمام علي بركات