ثقافةصحيفة البعث

أي زير منهما نصدق

 

الحديث عن عمل فني نال إعجاب الملايين، بما قدمه من متعة فرجوية، تجسد واحدة من أهم قصص البطولة والفروسية في التاريخ العربي، بل ربما من أشهر القصص المحفوظة في الوجدان الجمعي العربي “الزير سالم”، والتي حولها كل من الكاتب الراحل “ممدوح عدوان” وأخرجها “حاتم علي” إلى عمل درامي يحمل الاسم ذاته، هو حديث قابل دائما للتجديد فيما يتعلق بهذا العمل الإشكالي كلما أعيد عرضه، خصوصا وأن القصة الكلاسيكية التي عرفها الناس عن أحد أبطالهم العتاة، ذهب بها الكاتب “عدوان”، نحو أحداث تخيلية تعيد صياغة الحكاية نفسها، بل وتزيد عليها مالم يُسمع بعد عن هذه القصة، من أحداث ربما لم تجرِ أساسا، وهذا ما يجعل للكاتب بصمته الواضحة في نقل أي عمل “شعبوي”، إلى مرتقى ذي أبعاد نفسية، يجعل من حضور الحكاية نفسها مكتملة كشكل، حتى لو اختلف مفهوم الحكاية برمته، وذلك بإعادة ترميم الأحداث غير المقبولة منطقيا في سياق القصة، والتي غالبا ما استعان بها الرواة للتفخيم في قيمة بطلهم وهذا حق، منها على سبيل المثال لا التحديد، ما تمت مشاهدته من التباس فيما يخص علاقة الزير سالم مع زوجة أخيه كليب، والتي كانت سببا لتركه الديار، وعن ما آلت إليه حاله بعد أن كان بطلا منتصرا ثائرا لأخيه، من الغدر الذي أودى به على يد بن عمه(جساس) ، لتقوم بما عرف حينها بحرب البسوس، أو حرب الأربعون عاما؛ البطل هنا نراه في نهايتها مهزوما كما قُدم في العمل المذكور، مطرودا، عبدا، مشردا، خسيسا، يقتل آخر أصحابه “امرؤ القيس” الذين انتظر عودته واثقا منها بل ويهيئ العدة لإعادة دولاب القتال إلى مياهه ولتتحقق العدالة المنشودة؛ والحكاية التي كانت عن بطل قادم منذ بدايات عصر القص العربي، والذي سمي ظلما “العصر الجاهلي”، صارت عن بطل وضده، وما هذا الضد إلا هو البطل نفسه!.
وعدا عن الخوض في القيمة الفنية للعمل من جهة الإخراج وانتقاء الشخصيات والسينوغرافيا عموما، السؤال هو: لماذا يَظهر البطل المنتصر في الذاكرة الجمعية، بهذه الحال الرديئة؟ ما الذي جرى حتى صار وغدا، والثائر لدم أخيه مطلوبا للثأر؟ ما الرسالة التي يريد أراد صنّاع العمل تحميلها للقصة، بل ما الرسائل التي لا ريب لن تغيب عن بال كاتب كبير هو من أعد السيناريو والحوار وأعاد سكب الحكاية ولكن في قالبين متضادين؟ قالب يقدم القصة بالوفاء لطبيعة الشخصية البطل(مقاتل- صنديد-لا ينام على ضيم- ولا يهدأ الثأر في دمه، حتى وهو يمتطي حائطا، بينما الدماء تنزف من قدميه)؛ أما القالب الآخر فقد أوردنا سالفا ما ظهر فيه حاله، وكأنه هو عدو نفسه، الزير يثأر من الزير، لا من القاتل الحقيقي، هل يجب أن يمرّ البطل بكل ذاك الخزي الذي جعل كل من تابع العمل، يقارن فورا بينه وبين القصة التي سمعها إما من أبيه أو من الراوي، أو قرأها في كتاب ما، فتسقط عنده الشخصية المصورة، لتنتصر الشخصية التخيلية المكتوبة أو المنقولة مشافهة، فالبطل “التراجيدي” ووفق منطق القصة نفسها، لا يستطيع أن يكون بطلا وسافلا في الوقت عينه، فمن يذهب لقتل ملك لأنه أراد أن يسلب أخاه خطيبته وابنة عمه وحبه الأول، هو نفسه من يتسبب لسيدة من نسبه ودمه، بمشكلة عويصة مع زوجها كادت تهلكها!، فكيف تستقيم النظرة هنا، وأي “الزيرين” نصدق؟ ذاك الفارس الشهم القادم على صهوات الموت لأعدائه، أم ذاك العجوز المكسور الظهر، العاجز عن الدفاع عن ابنته، بعد أن قام الرعاع بسلبها منه مقابل بضعة جلود غنم؟، ثم ماذا لو لم تظهر سيرة “الحارث بن عباد” في العمل، ماذا كانت ستكون نهاية القصة؟ لأنها بدأت، وذروتها وقعت، أما نهايتها فيجب أن تحدث وإلا انتفى عنها شرط القص، وما كانت قصة أساسا!، ظهور شخصية “الحارث بن عباد الذي ربما كان موجودا وربما لا، -دعونا لا ننسى أن الحكاية تم تناقلها مشافهة لأزمنة طويلة، ولا بد من إضافة هنا وحذف هناك-لم يكن إلا لإنهاء الحكاية بالشكل الذي انتهت عليه في المسلسل، وهي لم ترد في كتاب، أو على لسان راو، وهنا تتجلى عبقرية عدوان، في اللعب بالقصة، ونسف مفهوم البطولة الثأرية لصالح السلام الذي يحفظ ماء الوجه (بضعة خيول للابن الملك -الجرو).
المسلسل الذي عُرض بدايةً على أم بي سي، وكلّف في عام 2000 قرابة 2 مليون دولار، باعتناء شديد بالأزياء، والديكور، وب”عبث” بالقصة العربيّة الأولى المتكاملة في التّاريخ، يُطرح عليه الآن السّؤال التّالي: هل كان الهدف منه، تضخيم شخصيّة الزير سالم،لتحطيمها لاحقاً، وتحطيم وصية الأخ – الملك المغدور التي كتبها بدمه على الصخرة ” لا تصالح” وهي وصية تجلب إلى الأذهان بقوّة قصيدة الشاعر المصري أمل دنقل”لا تصالح” والتي كتبها ضدّ التّطبيع؟ الاستخفاف بالثّأر، والنظر إلى الحرب على أنّها عبث من وجهة نظر المسلسل، هل كان لأهداف وغايات “تطبيعيّة”؟ مشهد الزير سالم مع أولاد أخيه،وهو يقنعهم بضرورة امتلاك السلاح،بعد أن حرمهم الأعداء من ذلك قد يُساعد على الإجابة.
كل إعادة لأي عمل درامي من العيار الثقيل كمسلسل “الزير سالم” هو فرصة لفهم أكبر لعوالم الكاتب وفضاءاته التي وجدها مناسبة لزمانه، وللمقولة التي يريد إيصالها للجمهور، كما أنها أيضا مصدر لقراءات مختلفة للعمل من مختلف جوانبه، وذلك لفهم الأبعاد النفسية لعوالم الشخصيات وأبعادها ولسان حالها.
اليوم لم يعد الجمهور يقبل بالبطل الخارق الذي لا يكترث لألف فارس، بل إنه ربما بحاجة إلى بطل واقعي من هذا الزمان، يحيا حياة طبيعية لا تحرك في النفس النزوع صوب البطولة، بل صوب الواقعية؛ ولكننا الآن أمام معضلة فنية على الأقل، والعمل يُعاد بثه على واحدة من القنوات المحلية، وهي: أي الزيرين نصدق؟.
تمّام علي بركات