ثقافةصحيفة البعث

فيلم “المجهول”.. حين تغدو خصوصيتك خطراً على الآخر

 

 

تكمن أهمية فيلم “المجهول” في أنه يحمل الصورة المستقبلية المتوقعة للجنس البشري في الزمن القادم، إذ نحن نعيش ضمن عالم رقمي بامتياز، وبات الجميع فيه يتشاركون أدق خصوصياتهم على صفحات التواصل الاجتماعي ضمن عالم افتراضي التهم كل من اقترب منه. وهو المستقبل الذي بات لا معنى للخصوصية فيه ولا وجود لها، ليصبح مجرد ظهور شخص وحيد يخرج عن المألوف ويحيط الغموض بالمعلومات المتعلقة به هو الرعب الحقيقي.

قبل التكنولوجيا
في العام 1949 اصدر الكاتب الأميركي جورج أورويل روايته 1984 التي تنبأ فيها للبشرية أن تصبح تحت رحمة قوى كبيرة تتحكم بمصيرها وتتقاسم هذا العالم وسكانه وأحلامهم وتطلعاتهم، بل رأى فيما رآه إنها سوف تحول جموع البشر فيه إلى مجرد مجموعة من الأرقام فيما بات لعبة بين يديها، بينما رأى سواه أن هذا التطور التكنولوجي لن يكون سوى الوحش الذي سوف يلتهم صانعه ويقلب حياة البشرية رأساً على عقب، وهو الأمر الذي بتنا نعيشه حقيقة حيث لم تعد الخصوصية الشخصية معياراً أو ميزة اجتماعية لأيِ منا هذا إذا كان الحصول عليها ممكناً، وهي تستباح على مدار الساعات أقله عبر مواقع التواصل التي اجتاحت المجتمعات بشكل مخيف، هذا الأمر لم يشغل الكتاب والمفكرين فقط بل تحول إلى إشكالية هي سمة زمننا الحالي، ورغم أن النقاش فيه بات يشكل نوعاً من جدل لا نهاية له، إلا أنه يبقى في جميع الاحوال من أكثر المواضيع إثارة للقلق.

مدينة مجهولة
وفيلم “المجهول” نوع من الأفلام خارجة عن النمطية السائدة، غير مألوف ويمكن أن يقال عنه أنه ابن العصر تأخذنا أحداثه إلى مدينة مجهولة تماماً غير معروفة على الخارطة زمنها مستقبلي غير محدد، لكنه بالتأكيد ينتمي إلى القادم من الأيام، الغلبة فيه للقتامة فالفضاءات رمادية والأسود لون ملابس الجميع، شخوص تتحرك أهم ما يميزها أن لا خصوصية لأي منهم وقد رافقته نافذة رقمية تحمل كل معلومة تتعلق به من أصغرها إلى أكبرها، بما فيها الاسم والانتماء، عنوان السكن ومكان العمل وما إلى ذلك، يبقى الأمر سواء وعادي بالنسبة للجميع إلّا حين تظهر في الأنحاء وبين الجموع شخصية وحيدة طمست المعلومات المتعلقة بها وبدت نافذتها الخاصة فارغة بشكلٍ كامل.
ومن بين الجميع سوف تلتقط عين المحقق “سال/ كليف أوين” بالصدفة تلك السيدة “جسدت الدور الممثلة أماندا سايفريد” التي يحيط بها الغموض نافذتها الرقمية لا تحتوي على أي معلومة، تختفي بين الجموع التي اعتادت تبادل المعلومات والآراء بالتخاطر أو نظرات الأعين.

جريمة غامضة
يترافق ظهور السيدة الغامضة في المجتمع الغريب بعدد من الجرائم الإلكترونية يكون نتيجتها مقتل عدد من الأشخاص بطلقة واحدة في الرأس، إذ يتمكن شخص مجهول من اختراق منظومة البيانات الخاصة بعدد من سكان المدينة وبطريقة متطورة جداً يصل إلى الشخص المستهدف ويتم القضاء عليه فيما بعد.
وحين تتكرر الجرائم لا بد من أن يسود الرعب ما يستدعي استنفار جهود رجال الأمن واستنهاضهم من التراخي والكسل ولن تكون طبيعة تحركهم مختلفة عن أسلوب الحياة التي اعتادوها، لذا يسارع كل منهم بالبحث في ملفات المشتبه بهم وتبادل النتائج التي توصلوا إليها بالتخاطر والنظر. في تلك الظروف وعلى خط موازٍ سوف يتولى المحقق “سال” مهمة ملاحقة المرأة الغامضة “الهاكر” تلاحقه صورة أليمة للحادث الذي أفقده طفله الوحيد طوال زمن الفيلم.
سوف يلجأ “سال” إلى الحيلة في استدراج السيدة المجهولة إلى مصيدته، إذ يقدم نفسه إليها مجرد رجل حسابات يعمل بوظيفة عادية في أحد البنوك، ويحتاج إلى توظيف مواهبها في الانتقام من امرأة ما والقيام باغتيالها، سوف ينطلي الأمر على المرأة ولكن ليس لفترة طويلة فهي سرعان ما تكتشف حقيقة الرجل الذي استخدمها لتنعكس الأمور بعدها وتدخله في حالة من الهذيان والضياع بعد أن أحاطته بعدد من الأحداث غير الحقيقية، عبر قدراتها الخاصة في اختراق الحواسيب والدخول إلى المنظومة الإلكترونية.
هكذا يقدم المخرج النيوزلندي “أندرو نيكول” شريطه السينمائي عبر محورين أساسيين متوازيين تربط بينهما المرأة المجرمة، هما محور المحقق “سال” الذي تحيط بحياته المرارة والحزن بسبب صغيره الذي فقده والزوجة التي انشغلت عنه بحياتها الخاصة.
وبالتوازي يأتي المحور الثاني الخاص بعالم المدينة المجهولة الانتماء وفضاءاتها القاتمة وشوارعها الباردة الخالية من روح الحياة الطبيعية، عالمين لا يربط بينهما سوى سيدة أثارت قلق الطرفين.
إضافة إلى المتعة البصرية التي أشاعتها بيئة العمل البوليسية الممزوجة بأجواءٍ من الخيال العلمي هو الأكثر قرباً إلى أذهان شرائح عمرية متعددة هي ابنة العصر الحالي، إضافة إلى ذلك يطرح الفيلم المسألة الأكثر تداولاً في الحياة العامة حالياً وعبر مواقع التواصل الاجتماعي التي تعد أكثر وسيلة تنتهك عبرها الخصوصيات وقد اجتاحت المجتمعات بطريقة مخيفة في مؤشر مثير للقلق أننا كلما أوغلنا في التقدم وأتيحت لنا إمكانية امتلاك مفاتيح العلم والتكنولوجيا، كلما ازدادت إمكانية استباحتنا وخسارة الخصوصية، وأننا بتنا جميعنا عراة تماماً أمام أعين العالم.
بشرى الحكيم