دراساتصحيفة البعث

الأزمات الاقتصادية.. كسبب ونتيجة

 

باسل الشيخ محمد

قبل قرابة 2000 عام، آثر الكاتب والخطيب الروماني ماركوس شيشرون  أن يعتبر القانون الأسمى هو “أمن الناس وصحتهم”، على اعتبار الأمن مستنداً إلى القوة العسكرية الجبارة لروما آنذاك، مر قرنان بعدها عقب الحرب العالمية الثانية، ليتبيّن مرة أخرى أن الحرب ليست هي الخطر الوحيد المحدق ببني البشر، صحيح أن سكان دول الحلفاء لم يعودوا يهرعون إلى الملاجئ هرباً من قصف طائرات دول التحالف، إلا أن الفقر هو ما بات بعدها يداهمهم في عقر بيوتهم، وصحيح أن الولايات المتحدة لم تستعمل القنبلة النووية منذ أن ألقتها على هيروشيما وناكازاكي، إلا أنها، بدلاً من ذلك، باتت جزءاً مؤثراً في الاقتصاد العالمي انتهى بما يشبه السيطرة على الاقتصاد الدولي.

تبلورت رؤية الاقتصاد كأحد أهم العناصر الأمنية غير العسكرية إبان الحرب الباردة، يلخص ذلك التوجه روبرت مكنمارا وزير الدفاع الأمريكي الأسبق، “ورئيس المصرف الدولي السابق أيضاً”، حينما قال في كتابه “جوهر الأمن” بأن الأمن لا يقتصر على المعدات العسكرية، ولا على القوة العسكرية، ولا على النشاط العسكري فحسب، بل إن الأمن هو التنمية، فلا تنمية دون أمن، وليس للدول التي لا تنمو أن تنعم بالأمن، ولعل الاقتصاد هو الرابط  الخفي الذي يجمع ما بين قضايا تلوث البيئة، والانفجار السكاني، وقضايا اللاجئين، وقضايا الأمن البحري، والأمن المائي، والغذائي، وغيرها من القضايا العالمية، وإن كان هذا الترابط مع الاقتصاد غير مباشر معظم الأحيان.

وسواء كان القارئ يؤيد فكرة أن الاقتصاد هو ما يسبّب الحروب، أو يعتقد أن الحروب هي أحد أهم محددات الاقتصاد، وكلا الرأيين صحيح في مكانه، إلا أن نظر الكثيرين بات يتوجه إلى مخاطر اقتصادية ربما، وأقول ربما، يكون لها دور في تحريك عجلة الصدامات، بدءاً من الأزمات الدبلوماسية، وانتهاء بفتح صناديق الذخيرة، أول ما يلاحظ في الاقتصاد العالمي هو انخفاض أسعار النفط عالمياً، وعلى الرغم من تحقيق بعض الارتفاع في سعر النفط مؤخراً، إلا أن المعدل بقي دون سعره في عام 2014، لن نتحدث عن وقوع بعض الدول مثل انغولا ونيجيريا ضمن دائرة الديون، وبالتالي تعرّضها لعدم الاستقرار السياسي والاجتماعي، بل إن حديثنا هو شح العرض وازدياد الطلب بعد أن قطعت منظمة الأوبك حوالي 1.8 مليون برميل منذ كانون الثاني العام الفائت.

ليس السؤال إلى أي نوع من الاصطفافات السياسية المرتبطة بالأمن يمكن أن يؤدي هذا؟.. لكن السؤالين البارزين هما:

– هل ستقرأ الولايات المتحدة هذه الاصطفافات على أنها تهديد لمصالحها، ما سيؤدي إلى مزيد من التوترات الإقليمية في هذه البقعة من الأرض أو تلك؟!.

– وهل ستتمخض عن تلك الاصطفافات تحالفات اقتصادية/أمنية قادرة على الدفاع عن مصالحها؟!.

لا يحتمل الجواب صيغة الجزم حالياً، لكن أبرز ما نراه حالياً هو تدهور الليرة التركية الحالي على أرضية الخلاف التركي– الأمريكي، في أي اتجاه ستسير تركيا اقتصادياً؟.. هل ستكون قطب تحالف اقتصادي آسيوي، أم أنها على موعد مع اضطراب اقتصادي يترافق مع توازنات عسكرية تفرضها الولايات المتحدة كنوع من الضغط عليها؟.

كلا الاحتمالين ضاغط على تركيا، ولا يبدو أن الاضطراب الاقتصادي يتطلب وقتاً طويلاً ليحل بأي اقتصاد، فسرعة تدفق السلع والخدمات ورأس المال، كما حدث في الأزمة المالية لجنوب شرق آسيا منتصف عام 1997، كفيلة بسحب البساط من تحت أقدام الاقتصاديات الصاعدة.

لسنا في وارد عرض أدبيات نظرية المؤامرة، ولكن التحكم في الثورة الصناعية الرابعة هو أحد أهم ما على أجندات منتدى دافوس الاقتصادي الذي يصفه البعض بأنه مؤتمر الرأسمالية العالمية، على الرغم من أن الرأسماليات العالمية لا تتمتع دائماً بعلاقات طيبة بعيدة عن البراغماتية، فعلى الرغم من أن قيمة التبادل التجاري بين الولايات المتحدة وكندا بلغت سبعمئة مليار دولار أمريكي عام 2017، إلا أن القرار الأمريكي الأخير بفرض رسوم على الفولاذ والألمنيوم المستورد إليها بنسبة 25%، و10% للمواد المستوردة من أوروبا، وكندا، والمكسيك، وكوريا الجنوبية، والرد الكندي بفرض رسوم على البضائع الأمريكية، يجعل الحرب تنتقل من كونها حرباً على الجسد “الحرب التقليدية”، وعلى العقل “الحرب الثقافية”، لتصبح حرباً على الجيوب “الحرب الاقتصادية”، وتلك الأخيرة كفيلة بإضعاف الجسد والعقل في آن واحد.

وزير المالية الكندي بيل مونرو أعرب في ختام لقاء ست من الدول الصناعية السبع عن قلقه من بدء حرب قريبة، وبدورهم عبّر ممثّلو الدول الست وهي: اليابان، وألمانيا، وفرنسا، وكندا، وبريطانيا، وايطاليا، عن “قلقهم  وخيبة أملهم” من قرارات ترامب التي فرضت رسوماً على صادرات تلك الدول.. لم تعد الدول الرأسمالية إذاً تنتهج الاعتمادية لإحلال السلام الديمقراطي، بل بات شبح المواجهة الاقتصادية، وربما مواجهات من أشكال أخرى، غير مستبعد، وهنا يتبادر إلى الذهن أن لهذه المواجهات أثراً بالغ السلبية على الدول النامية، سواء كانت تعتمد على مساعدات الدول الغربية، أو كانت تعتمد على معظم منتجاتها الهامة كالأدوية، والمعدات التقنية المتطورة، فلا الدول الغربية تقبل بدخول الدول النامية كشريك استثماري، ولا هي قادرة على أن تستغني عن التصدير إلى الدول النامية.

مرة أخرى، هل ستقرأ الولايات المتحدة اصطفافات الدول الست على أنها تهديد لمصالحها؟ وهل سيتمخض عن تلك الاصطفافات تحالفات اقتصادية/أمنية؟.. لايزال الوقت باكراً للتكهن بالمسار الذي سيتخذه الصراع، أو الخضوع من جانب هذا الطرف أو ذاك، الواضح حالياً هو أن أمن الناس وصحتهم ليس كما وعد أي مرشّح رئاسي في دول الغرب!.