ثقافةصحيفة البعث

برامج الكرتون وقنوات الظلام

 

 

لم يعد من السهل ضبط مزاج الأطفال في متابعتهم للبرامج التي من المفترض أنها موجهة لهم، فالأمر لم يعد باليسير أبدا، إن لم نقل من المستحيل، وذلك بسبب وجود عشرات المحطات الفضائية التي ترتدي لبوس قنوات مخصصة للأطفال إلا أنها في واقع الحال، ليست في هذا الأمر من شيء، بل إن العديد منها ذهبت نحو توجيه خطاب متعصب مقيت يكرس الفرقة والجهل وحتى التطرف في عقول الناشئة الذين هم من يعول عليهم في بناء واقع مستقبلي يجب ولا بد له أن يكون أفضل في كل أشكال الحياة.
تلك القنوات هي من الخطورة بمكان أن يُترك الأطفال وحدهم في مشاهدة ما تبثه من سموم ترتدي شكل البرامج الكرتونية المحببة لدى الأطفال، إلا أنها لا تقدم إلا خطابا دينيا تحريضيا يكاد يكون هو الأشد خطرا على ما يترسخ في الوعي الغض لهذه الشريحة الحساسة جدا من المتفرجين، خصوصا في تلك القنوات التي تقدم العبرة الدينية من وجهة نظر واحدة، أي تقوم على التركيز على توجيه نصائح مشبوهة لهذه الشريحة العمرية تحرض على التمييز وتبث سموم الفرقة والتعصب.
عموم الأديان السماوية تدعو إلى التسامح والعدل والمحبة، ولكن لنأخذ مثلا عن بعض تلك البرامج التي تعرضها قنوات فضائية يمولها الدولار الملوث بالفيول، تسعى لتأصيل فكر الإرهاب، في رؤوس أطفالنا عبر قنوات الكارتون، وعلى سبيل المثال لا الحدّ، نورد المثال التالي، الذي يُوضح بنية هذا الخطاب الجهنمي وأسلوبه الخبيث في الربط بين ما هو أخلاقي وما هو العكس تماما.
بثت قناة سعودية موجهة للأطفال -كما تدعي، فيلما كارتونيا قصيرا، لا يتعدى زمنه دقائق ، يحكي مضمونه عن طفلين يشاهدان شيخا مسنا يعبر الطريق، فيتسابقان لمساعدته!.
في الظاهر الطفلان يتنافسان في ذلك الواجب المقدس، وهو ذاته التعبير الذي يستخدمه صُناع الفيلم نقلا عن قوله: “وفي ذلك فليتنافس المتنافسون”!
للحظة لا يوجد أي مشكلة على الإطلاق، لكن في ذات السياق التنافسي _بين قوسين المُحبب_ نشاهد على الشاشة طفلًا يُطلق صاروخا _حرفيا_ على منافسه ليعيقه عن تحصيل “فعل الخير” كي يفوز هو به!. الطفل الضحية يمتطي الصاروخ _في استخفاف مهين بعقول الأطفال_ ويؤدي به لبعض الحركات البهلوانية حتى يسبق منافِسه إلى الشيخ.! في النهاية يصل الطفلان معا، ويعاونان الشيخ على عبور الطريق! ثم تظهر على الشاشة عبارة: “هناك أشياء تستحق التنافس من أجلها”!. لكن دعونا لا ننسى كيف فهم الطفلان وتعاملا مع “فليتنافس المتنافسون”، فهما قاما بحرب ضروس فيما بينهما من أجل “الأشياء التي تستحق التنافس” – لاحظوا الربط بين ما يُعتبر صحيا في المجتمعات أي التنافس للفوز، وبين كيفية تحقيق ذلك، ولو بالحرب كما أسلفنا، وهذه الحرب تم استخدام صنوف من الأسلحة والصواريخ والتفجير فيها، كل للوصول إلى رضا ربه، عبر مساعدته للشيخ المسن.
إن لم يكن هذا هو عين الترويج لفكر الإرهاب، لفكر الذبح والتفجير والقتل والتحريض على الاقتتال بدعوى “تطبيق أصول الدين وما هو معلوم منه بالضرورة”، فما هو إذا!.
دعونا من التحريض المجتمعي على المنافسة لحد الاقتتال من أجل أمور نسبية، قد تراها تستحق وقد يراها غيرك لا تستحق، لكن أن يطلق الأطفال الصواريخ على أقرانهم من أجل فِعل بعض الخير؟!.
بالمناسبة فعل الخير الذي تم تقديم مثال عنه كما ورد أعلاه هو في الحقيقة “خير نِسبي” جِدا، ففي العديد من المجتمعات المتقدمة توفره الدولة مجانًا كخدمة لمواطنيها، متمثلة في إشارات سير المشاة التي يطلقونها بأنفسهم لتنبيه السيارات وتوقيفها لإتاحة نهر الطريق للراجلين، فيما مجتمعات أخرى حولت وظيفة إشارة المرور، التي لم يعد لها قيمة بعد التصوير الإلكتروني والإشارات الرقمية _حولتها_ إلى وسيلة لتنظيم مرور المشاة وتوقيف السيارات فورا من أجل مرور هؤلاء المشاة دون إطلاق صواريخ وضرب رصاص وتفجير مفخخ لفاعلي الخير!.هذا غيض من فيض كما يُقال عن أمثلة أشد شناعة في إقصاء الآخر بل والتحريض عليه، وأين في المدرسة مثلا، المكان الذي يُفترض فيه أن يكون منارة للعقل، وليس منامة له.
على المقلب الآخر تذهب أيضا العديد من قنوات الأطفال إلى تكريس صورة البطل الغربي في ذهن الطفل، إلا أن هذا البطل كما يبدو سريالي الطباع، وفانتازي الشكل، عدا عن المسلسلات الكرتونية التي تشيء العالم كله، الإنسان واللصاقة الطبية هما مثلا يعيشان في مجتمع واحد وبينهما علاقات اجتماعية طبيعية، يعيشان في الحي نفسه، يرتادان ذات المدرسة، يطرحا نفس “القيم” الغربية، ولكن هذه المرة بالعجائبي، الذي يبهر الطفل ويشده إليه، حتى لو لم يفهم ما هو خلف الفيلم الممتع الذي يضحك وهو يشاهده، فهو دخل في نفق “الأدلجة بأنواعها” سلفا، عبر ما يتراكم في ذهنه من انطباعات وصور ومشاهد، تصبح في المستقبل مألوفة له، لذا من الطبيعي أن نشاهد على قناة وهابية موجهة للأطفال، فيلما كرتونيا، الحرب فيه هي السبيل لنيل مرضاة الرب، لا تطبيق وصاياه، التي تجيء في كل الأديان، لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
تمّام علي بركات