دراساتصحيفة البعث

ألمانيا الاتحادية تسعى للتمدد شرقاً

 

د. مازن المغربي
تتالى المؤشرات حول وجود مخططات ألمانية للعب دور أكبر على المسرح العالمي يتوافق مع الطموحات الامبريالية المتجددة التي صارت من سمات الخطاب السياسي الألماني. ويبدو أن الرأسمالية الألمانية التي قادت بلادها إلى حربين دمويتين فاشلتين تتصور اليوم أنها تمكنت من استيعاب دروسهما، وأنها قادرة على الذهاب إلى أقصى مدى ممكن بالاعتماد على قوة اقتصادها وعلى عسكرة سياستها الخارجية.
وتتعامل الحكومة الألمانية مع منطقة الشرق الأوسط بوصفها الميدان الأفضل لتعزيز مكانة ألمانيا كلاعب رئيسي على المسرح العالمي. وضمن هذا السياق يفترض بنا توخي الدقة في استخدام المصطلحات حيث يظن الكثيرون أن الشرق الأوسط يقتصر على الدول الواقعة على الضفتين الشرقية والجنوبية للبحر الأبيض المتوسط،. لكن حدود هذا المفهوم تغيرت دون أن يتم تحديدها بدقة وصارت تضم مصر في الغرب وتصل إلى إيران في الشمال، ويرى البعض أنه يمكن أن يضم تركيا وجنوب اليمن. وكانت هذه المنطقة منذ القرن التاسع عشر ميدانا لمواجهة بين بريطانيا، الامبراطورية البحرية، وبين روسيا الامبراطورية القارية.
اكتست هذه المنطقة أهمية كبيرة بسبب موقعها وبسبب ثرواتها الطبيعية، وكانت هي الميدان المفضل لكل القوى الصاعدة لإثبات مكانتها.
ضمن هذا السياق، يمكن أن نقرأ زيارة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إلى أذربيجان التي كانت محطتها الثالثة والأخيرة في جولة عبر إقليم جنوب القفقاس. وعلى الرغم من الإشكال الدبلوماسي الذي شاب الرحلة حيث رفضت حكومة باكو منح النائب عن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، ألبرت فايلر، الذي كان من المقرر أن يكون ضمن الوفد المرافق للمستشارة، تأشيرة دخول بسبب زيارة سابقة قام بها إلى منطقة قره باخ التي هي موضوع نزاع بين أذربيجان وأرمينيا، الأمر الذي اعتبرته باكو تدخلا فظا في شؤونها الداخلية.
وطبعا، لم يقف أحد عند هذا الإشكال البسيط حيث أن زيارة هذا البلد الغني بالنفط تدخل ضمن إطار تحديد الأبعاد الجيواستراتيجية للسياسة الخارجية الألمانية الجديدة، وفق تصور وزير الخارجية من الحزب الاشتراكي الديمقراطي، هايكو ماس، الذي نادى منذ توليه منصبه في الحكومة الائتلافية بصياغة سياسة جديدة مستقلة في التعامل مع بلدان الشرق. وضمن هذا الإطار سعى وزير الخارجية الألماني إلى فتح مفاوضات مع حكومة باكو فيما يتعلق بصفقات تسليح على الرغم من الحظر المفروض على تصدير الأسلحة إلى أذربيجان من قبل منظمة الأمن والتعاون الأوروبي.
وتعود العلاقة بين برلين وباكو إلى العام 1992، تاريخ تأسيس الجمهورية المستقلة عن الاتحاد السوفييتي. وحرصت برلين على تعزيز روابطها الاقتصادية مع أذربيجان وصار هناك غرفة تجارية ألمانية تعمل على فتح المزيد من القنوات بين ممثلي الشركات الصناعية الألمانية الكبرى وبين ممثلي الحكومة الأذربيجانية. ومن المؤشرات على اهتمام الحكومة الألمانية بأذربيجان واقع أن باكو كانت، عام 2016، خامس أكبر مصدر للنفط إلى ألمانيا، ولدى ألمانيا مشاريع ضخمة لمد أنابيب نقل الغاز من تركمانستان، رابع أغنى دولة بالغاز في العالم، عبر أذربيجان وروسيا وتركيا. وبالمقابل نجد أن حماس حكومة باكو لتعزيز روابطها الاقتصادية مع أوروبا دفعها للدخول في مباحثات حول اتفاقية للشراكة الاقتصادية مع الاتحاد الأوروبي، ونحن نعرف من تجربة بلادنا أن اتفاقيات الشراكة لا تعدو أن تكون واجهة براقة تخفي وراءها محاولات للاحتواء والضغط. لكن يبدو أن حكومة باكو مدركة تماما لأبعاد الموضوع، وهي اتهمت واشنطن علنا بأنه أعدت محاولة لإشعال ثورة ملونة وفق النموذج الأوكراني، وكانت ردة الفعل المنطقية هي التقارب مع الجار الروسي القوي، وتمثل ذلك بدخول باكو عام 2016 في الاتحاد الاقتصادي لمنطقة أوراسيا الذي تقوده موسكو، كما سعت باكو لتعزيز علاقاتها بالصين الأمر الذي حد، حتى الآن، من قدرة الحكومة الألمانية على تحقيق اختراق جدي هناك.
لكن، يبدو أن الطموحات الألمانية بالتمدد شرقا لا تعتمد على الجانب الاقتصادي وحده، حيث صار من المعروف وجود ميل متصاعد لعسكرة السياسة الخارجية الألمانية وفق ما ورد في الكتاب الأبيض الخاص بالجيش الألماني. وليس هذا بالأمر الجديد حيث نجد في وثيقة نشرت في الثامن عشر من أيار 2011، بعد أشهر قليلة من اندلاع الأزمة السورية، تحت عنوان “كتاب إرشادي حول السياسة الدفاعية الألمانية”، أن أهداف السياسة الأمنية الألمانية تتمثل في حماية مواطني ألمانيا، والحفاظ على وحدة أراضيها وسيادتها، وحماية حلفائها من التهديدات، وهما أمران ينسجمان مع توجهات أي دولة ذات سيادة، مع وجود بعض الاستغراب نتيجة الغموض الذي يلف الطرف الذي يهدد مواطني ألمانيا وسيادتها، لنصل إلى الهدف الثالث الوارد في الوثيقة وهو تحمل كامل مسؤوليات ألمانيا على الصعيد الدولي، وهذه هي النقطة التي يتم الاستناد إليها في تبرير تدخل الحكومة الألمانية السافر في الشؤون الداخلية لدول مستقلة.
يمكن القول أن الحكومة الألمانية بدأت تتصرف بوصفها قوة عظمى يحق لها لعب دور شرطي عالمي وفق ما ورد في مقال نشر في موقع “جرمان فورين بوليسي”، في آب المنصرم، لم يستبعد فيه خبراء السياسة الخارجية الألمانية مشاركة ألمانيا في شن حرب ضد إيران بهدف الحد من نفوذ الصين. ويرى الكثيرون من المهتمين بالشأن الصيني أن بكين تمكنت من استثمار انصياع الدول الغربية لضغوطات واشنطن وعززت من مكانتها الاقتصادية عبر شركاتها المتعددة التي أعلنت عن استعدادها التام لسد الفراغ الذي نتج عن انسحاب الشركات الغربية من إيران. وفي واقع الأمر صارت الصين الشريك التجاري الأول لإيران ويندرج هذا ضمن سياق سياسة طريق الحرير الجديد الذي تسعى بكين لإحيائه بهدف تنشيط حركة التبادل التجاري الدولية. وتحتل سورية موقعاً مهماً في مشروع طريق الحرير الجديد، كما صار من الواضح أن هناك فرصاً قوية أمام الشركات الصينية لتنفيذ مشاريع ضخمة في عملية إعادة إعمار سورية، وهو أمر لا يرضي الحكومة الألمانية التي تسرعت كثيراُ في تعاملها مع الأزمة السورية وراهنت على مجموعات من المعارضين الذين لا يمتلكون أي وزن داخل البلاد، ووصلت الأمور إلى حد تنفيذ مشاريع لترميم البنى التحتية في المناطق الخاضعة لعصابات التكفيريين.
وخلال الأعوام المنصرمة قدمت هيئة التبادل الأكاديمي والثقافي الألمانية 221 منحة لطلاب سوريين تم انتقاؤهم دون تشاور مع الحكومة السورية وتسعى الحكومة الألمانية لمنحهم دوراً في مستقبل سورية – كما تروج – وقد قامت هيئة التعاون الدولي بتقديم أربعمائة وخمسين ألف يورو لمستشفى في مدينة أريحا في محافظة إدلب، وهو أمر استفاد منه أفراد العصابات المسلحة التابعين لجبهة أحرار الشام المدرجة على قائمة المنظمات الإرهابية.
وعند مراجعة مسار تطور السياسة الخارجية الألمانية، نجد العديد من المؤشرات على مدى تغلغل النزعة العسكرية بين صفوف النخبة الحاكمة الألمانية، بل يمكن القول إن تأسيس الدولة الألمانية الحديثة اعتمد إلى حد بعيد على تنظيم المجتمع بشكل عسكري. وكان مؤسس الدولة القومية الألمانية بسمارك واضحاً في مقاربته للمسألة الألمانية التي جزم أنها لن تحل إلا في ميادين الحرب، وفعلا تمكن بسمارك من فرض قيام الدولة الألمانية عام 1871 بعد حروب ضد كل من الدانمرك والنمسا وفرنسا.
وجرت العادة في ألمانيا على قيام الإعلام بحشد الرأي العام لتأييد توجهات النخبة الحاكمة، ولم يتغير هذا الأمر على الرغم من كل الشعارات الخاصة بحرية الإعلام واستقلاله، حيث صار من المعروف أن كل وسائل الإعلام الكبرى في ألمانيا مرتبطة بالشركات الصناعية الكبرى وتخضع بشكل كامل لتوجيهات وكالة الاستخبارات المركزية في الولايات المتحدة، كما ورد في كتاب الصحفي الألماني أودو أولفكوتيه، الذي صدر عام 2014، وحمل عنوانا رئيسيا هو “صحفيون للبيع” في حين كان عنوانه الفرعي “كيف يسيطر الساسة والأجهزة السرية وكبار رجال المال على الإعلام الجماهيري”. ويمكن تكوين فكرة عن مدى اهتمام الإعلام الألماني بالمجابهة المفتوحة مع الصين من خلال مراجعة موقع دير شبيغل أونلاين حيث نجد في الأرشيف خمسين ألف وثمانمائة واثني عشر مقالا حول الصين تغطي الفترة ما بين 1947 واليوم. وبحساب بسيط، نجد أن مجلة دير شبيغل خصت الصين بسبعمائة مقال سنويا على مدى واحد وسبعين عاما، وهذا يظهر مدى اهتمام الحكومات الألمانية المتعاقبة بوضع الصين التي تحولت خلال العشرين سنة الماضية إلى عملاق اقتصادي يمتلك تصورا شاملا حول تطورات الوضع الدولي، وتمكن من ترسيخ أقدامه في الكثير من مناطق آسيا وأفريقيا.
وكان واضحا خلال الأشهر الماضية حماس الحكومة الألمانية لمحاولات واشنطن احتواء صعود الصين. لكن مع قرار إدارة الولايات المتحدة الانسحاب من منطقة الشرق الأوسط، اشتدت حدة التنافس بين الصين وألمانيا على التغلغل في الشرق الأوسط. وتبدو كفة الصين راجحة لذا لا يستبعد المرء وجود خبراء في وزارة الخارجية الألمانية يدعمون فكرة تحويل إيران إلى جبهة مواجهة بالوكالة مع الصين.
لكن الحكومة الصينية غير غافلة عن هذه المشاريع العدوانية، وقد تعاملت مع الحرب التجارية التي شنتها إدارة الرئيس ترامب بشكل مدروس معتمدة على واقع أن الخلل في ميزان التبادل التجاري بين الصين والولايات المتحدة بلغ حدود 370 مليار دولار سنوياً لمصلحة الصين. كما أن الحكومة الصينية لم تغفل الجانب العسكري، وهي أرادت من مشاركتها في التدريبات العسكرية الضخمة التي سينفذها الجيش الروسي في شرق البلاد أواسط آب الجاري توجيه رسالة واضحة إلى العالم بأن العملاق الصيني يمتلك قوة ردع لا يمكن الاستهانة بها، حيث من المقرر أن يشارك في هذه التدريبات ثلاثمائة ألف جندي، وألف طائرة وتسعمائة دبابة، إضافة إلى قطع من أسطولي بحر الشمال والمحيط الهادئ.
ما من أحد يتمنى وقوع مواجهة بين القوى الكبرى، لكن صار من الجلي أن العالم تغير، وأن مسار الأزمة السورية دشن مرحلة جديدة في العلاقات الدولية أنهت استفراد واشنطن بتوجيه سياسة العالم، ووضعت حداً لسياسات قلب الأنظمة التي نشرت الخراب والدمار، وأودت بحياة ملايين الأبرياء تحت شعار الدفاع عن الحريات السياسية.