ثقافةصحيفة البعث

“جدائل الروح”.. فلسطين أيقونة العشاق وأكثر

 

رفد الفن التشكيلي الفلسطيني نضال وكفاح هذا الشعب من بداية انطلاقة ثورته في منتصف الستينيات حين بدأ العمل الفدائي المسلح منطلقا من مخيمات وتجمعات اللاجئين المؤمنين بالبندقية طريقا وحيدا لاسترجاع الأرض المغتصبة وطرد المحتل، وتصعدت العمليات الفدائية  بعد عام 67 لتشمل كل الأراضي الفلسطينية المحتلة ورافقها عمليات تعبئة وحماس شعبي عربي داعم لقضية العرب المركزية، واستنهض الأدباء والفنانين والمبدعين العرب أدواتهم نصرة للقضية، فقد بدأت ملامح فن القضية تظهر في الأدب والتشكيل الذي تجلى في فن الإعلان “البوستر” الذي يعد أحد أدوات تأليف الوعي وتوجيهه، وحشد المساحة العامة من الجمهور نحو فكرة الثورة وتمجيد الشهادة والشهداء وترسيخ القدس عاصمة وأيقونة ترمز للنضال والعودة واسترجاع الأرض المحتلة، وشارك في هذا الفن عدد كبير من فناني العالم تضامنا مع الشعب الفلسطيني، كما شارك الفنانون العرب في ذلك وخاصة في سورية: “نذير نبعة– عبد القادر أرناؤوط – غسان السباعي.. وغيرهم”.

كما أسس الفنانون الفلسطينيون الطليعيون وإخوتهم الفنانين العرب لبنات الأساس القوي للفن المقاوم الجديد الملتزم بقضية فلسطين منهم “إسماعيل شموط – تمام الأكحل – مصطفى الحلاج – سليمان منصور- منى السعودي – عبد الحي مسلم..”. ووصل الأمر ذروته في بداية الثمانينيات من القرن الماضي حيث أصبح الوجود الفلسطيني بتكويناته وفصائله ومؤسساته أكثر بلاغة، يتخذ من الثقافة والإعلام سلاحا رديفا للكفاح المسلح، وبتنا نرى عددا من المبدعين العرب يعملون ضمن هذه المؤسسات، كما نلمس الحضور الفاعل لمؤسسة التشكيليين الفلسطينيين “الاتحاد العام للفنانين”، وبدأت المعارض التشكيلية الدورية تقام كل عام احتفالا بمناسبة انطلاقة هذا الفصيل أو ذاك أو يوم الأرض في نهاية شهر آذار، والأهم هو معرض يوم الكرامة، فضلا عن المعارض الفردية التي تقام في بيروت ودمشق والعواصم الأخرى.

لعل المعرض الهام الذي أقيم في صالة المركز الثقافي العربي في أبو رمانة في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي للفنانين الأسيرين محمد الركوعي وزهدي العدوي هو من أكثر المعارض التي استحوذت على العاطفة والتضامن من متابعي الفن التشكيلي الفلسطيني في سورية، لأن الأعمال رسمت من واقع الأسر في سجون الاحتلال، فقد وصل بعضها مهربا من داخل السجن، واستمر حال الفنانين بالعمل بعد إطلاق سراحهما في عملية تبادل مع العدو.

بعد عشرات المعارض للفنان الركوعي أقام معرضه الجديد هذا الشهر في صالة لؤي كيالي للفنون الجميلة، قدم أكثر من خمسين لوحة منفذة بتقنيات متنوعة، ومن القطوع الصغيرة التي تتناسب مع حيز المكان الذي اكتظ بالأعمال المزخرفة والمشغولة بعناية الفنان المجرب لإمكانية المادة الملونة وبعض المواد الحاملة للصباغ كالرمل، ولا يغيب أيضا أن مساحة العمل يشغلها التأثير الغرافيكي حينا والتصويري والزخرفي حينا آخر، فلا مكان للفراغ أو في اللوحة، حتى السماء يغطيها الزجاج المعشق الملون، والثوب أو الحمامة يجب أن تمر عليهما يد النقاش، بهذه المبالغة القصدية والتجميعية للعناصر يضع الفنان المتلقي أمام وجبة من المفردات التي لا بد من محاورتها وتوقع أن البعض منها ينتمي لأمكنة الحلم والروح “جدائل الروح”، هي التسمية التي لابد منها لخلق الحميمية في معرض هذا الفنان من هذا السرب المرافق لحقبة عميقة من الوجدان الوطني الفلسطيني، الذي أضحى يفرض على المبدع أدوات أكثر خلقا من الممكن السياسي وأكثر واقعية في التعاطي مع الذهنية الثقافية التي أنتجتها بعض الخيبات وأروقة أهل التفاوض وسلطة المتقاعدين عن النضال.

وبالعودة إلى معرض الفنان النشيط محمد الركوعي ومواضيعه التي كان كريما في تقديمها وجميلا في التقرب من المتلقي المحتاج لأكثر من نافذة كي يبني الأمل، فلم تغب عنها المباشرة والدلائل المعتادة والتقليدية التي ترمز لفلسطين، وترافقت بمرتسمات للمشغولات التراثية المحورة من زخارف وعمارة أيقونية يتوسطها بورتريه لامرأة يكسوها غطاء أو هالة من الأمومة والترقب والحنين، مع بعض  الإضافات التزيينية التي أوقعت صاحبها في لغة تستجدي المتلقي وتأخذه إلى حيز آخر غير اللوحة التشكيلية القائمة على الخبرة والتأليف والمغامرة، فمن خلال المفردات الكثيفة والمتشابهة في اللوحة واللوحات الأخرى أوجد الفنان كمية من المعروضات المألوفة والرموز المستخدمة قبلا عند الآخرين وأضحت من سمات تجاربهم، والآن يعاد توظيفها بكثير من الحشو والمبالغة، هذا المعنى البصري يتشابه مع المشغولات اليدوية التي نجدها في المواقع السياحية والمزارات، لكن المزار السياسي حاضرا في لغة تشكيلية يحتاجها العديد من الفنانين الفلسطينيين الآن، وذلك لثقتهم أن هذه المساحة البصرية لن تخرج عن الثابت والمتفق عليه في السيرة  النضالية الفلسطينية، لكن وردة حمراء واحدة تكفي لتزيين البندقية.

أكسم طلاع