دراساتصحيفة البعث

منظمات حقوق الإنسان.. المبشّرون الجدد

ترجمة وإعداد: هيفاء علي
أكثر من ستة عقود مرت على ذلك اليوم التاريخي لتحرير الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فهل استفادت الإنسانية من دمار الحربين العالميتين، ورضخت لمنطق التعايش السلمي والتكافل الإنساني العالمي؟.. الجواب بكل تأكيد لا، ستة عقود مضت شهدت المزيد من الانتهاكات التي تفننت بها الدول نفسها المشاركة في تحرير الإعلان، والتي نصبت نفسها مسؤولة عن البشرية جمعاء، ولكن وفق وجهة نظرها ورؤيتها فقط، أكبر عملية احتيال ونفاق في تاريخ الإنسانية يرتكبها أولئك الذين يدّعون أنهم محامو الدفاع عن الفئات الأكثر ضعفاً، فيستغلون معاناتهم، وفي كثير من الحالات، يكون لهم دور مباشر في إدامتها!.
هذا هو الوصف المناسب للمضاربة العالمية لحقوق الإنسان من قبل واشنطن ولندن وبروكسل التي استخدمت “الدفاع عن حقوق الإنسان” مراراً كذريعة للتدخل السياسي، وأحياناً للتدخل العسكري، الأمثلة والشواهد لا تعد ولا تحصى، ولكن لنأخذ على سبيل المثال لا الحصر ما يحدث في ميانمار أحد بلدان جنوب شرق آسيا،
فمع توطيد وتمكين الروابط بين ميانمار والصين، تسعى الولايات المتحدة وشركاؤها الأوروبيون إلى الضغط عليها وحتى الإطاحة بنظام الحكم السياسي الحالي، والذي لا يشمل فقط قوة عسكرية قوية ومستقلة، ولكن أيضاً حكومة مدنية ساعدت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بشكل مباشر في وصولها إلى السلطة.
عقود من الدعم الأمريكي البريطاني لأونغ سان سو كي، عضو مجلس الدولة الحالي في ميانمار، تترسّخ لها ولأعضاء حزبها الوطني من أجل الديمقراطية، فالشبكات التي ترعاها الدول الأجنبية والتي جلبتها إلى ميانمار لمساعدتها على الاستيلاء على السلطة تستخدم الآن ضدها لإجبار سياسات ميانمار الداخلية والخارجية على الإذعان لها.

تقرير آخر مشكوك به من الأمم المتحدة
مؤخراً، صدر تقرير أممي حول الفظائع المرتكبة ضد أقلية” الروهينجا”، وقد اقترن بحملة شرسة بقيادة وسائل الإعلام الغربية، والمنظمات غير الحكومية التي تمولها الولايات المتحدة، المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي.
وكجزء من حملة العلاقات العامة هذه، طُلب من العديد من القادة العسكريين في ميانمار الاستيلاء على المحكمة الجنائية الدولية، وهي مؤسسة تعتبر في جميع أنحاء العالم استمراراً للاستعمار الغربي، وخاصة في أفريقيا، كما تمت ممارسة ضغوط مكثفة على الحكومة المدنية في ميانمار برئاسة أونغ سان سو كي وحزبها، الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية، وما يُترجم بقدرة الغرب على استغلال العنف العرقي للضغط على ميانمار، والسماح للغرب بمطالبة السلطة بتقديم تنازلات، وفرض عقوبات، أو سحب القوة عند الرغبة من كل شخصية سياسية أو عسكرية بارزة.
الهدف الرئيسي للسياسة الخارجية الغربية هو كسر روابط ميانمار مع الصين لتحويل ميانمار إلى دولة عميلة مطيعة، واستخدام نجاح هذا البلد في توسيع نطاق أعمال مماثلة في بقية جنوب شرق آسيا.
يكشف تقرير الأمم المتحدة الذي يحمل عنوان: “تقرير البعثة الدولية المستقلة لتقصي الحقائق في ميانمار”، عن أن منهجيته تستند إلى مقابلات، ويزعم ما جاء في سياق التقرير أنه قامت البعثة الأممية بجمع المعلومات الأساسية، وأجرت 875 مقابلة مع ذوي الضحايا وشهود العيان المستهدفين، كما حصلت على صور الأقمار الصناعية التي وثقت الواقعة، إضافة إلى حصولها على أشرطة فيديو، وأضاف التقرير:
“وعقدت البعثة أيضاً أكثر من 250 جلسة مشاورات مع أصحاب المصلحة الآخرين، بما في ذلك الوكالات الحكومية، وغير الحكومية، والباحثون، والدبلوماسيون، هذه هي النقطة الثانية التي تثير القلق بشكل خاص”.
يبدو أن الكثير مما تضمنه تقرير الأمم المتحدة هو مجرد تكرار للمعلومات الصادرة عن “المنظمات غير الحكومية” المعنية بحقوق الإنسان التي تمولها الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، والاتحاد الأوروبي، العناصر الأساسية لمضاربة حقوق الإنسان في الغرب.
ومن بين تلك المنظمات هناك منظمة “فورتيفي رايت” لحقوق الإنسان العاملة في ميانمار، والممولة من قبل حكومات الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وكندا، وهولندا، وكذلك مؤسسة “المجتمع المفتوح” للملياردير الأمريكي جورج سوروس، وهو مجرم مالي مدان، ويبدو أن تقرير الأمم المتحدة ما هو سوى ملخص قصير لتقرير أصدرته منظمة “فورتيفي رايت” حول الأحداث نفسها.

“المبشّرون الجدد” يتلقون التمويل من الولايات المتحدة وبريطانيا
كشفت منظمة “فورتيفي رايت “عن تمويلها في تقريرين سنويين على الأقل عن عامي 2015 و 2016، ففي عام 2015 حصلت على تمويل من الحكومات الهولندية والكندية والأمريكية من خلال الصندوق الوطني للديمقراطية (ned)، إضافة إلى تمويل من مؤسسات المجتمع المفتوح و”آفاز”، وفي عام 2016 انضمت الحكومة البريطانية إلى قائمة الجهات المانحة.
والسؤال المطروح الآن: كيف تقبل هذه المنظمة “حصانة” حقوقها من قبل الحكومات المنخرطة في انتهاكات حقوق الإنسان في كافة أرجاء العالم، بما في ذلك بيع الأسلحة إلى السعودية، ومساعدتها في عدوانها الشرس على اليمن؟!.
مؤسس منظمة” فورتيفي رايت” هو الملياردير الأمريكي ماثيو سميث، ادعى أن الدعم المالي الذي تلقته منظمته من المملكة المتحدة لم يستخدم في ميانمار، وإنما سُخر لبرنامج إنمائي تديره منظمته في تايلاند، في محاولة لتبديد المخاوف بشأن تضارب المصالح الواضح في أنشطة منظمته، واعترف بضلوع المملكة المتحدة في الأزمة الراهنة التي تشهدها ميانمار.
ولابد من التذكير بأن الاستعمار البريطاني هو الذي عمّد وتعمد استغلال التوترات العرقية التي مازالت موجودة اليوم في ميانمار، فالسلطات في البلاد فتحت تحقيقاً موسعاً حول دور تلك المنظمات في أحداث العنف التي شهدتها البلاد مؤخراً، وقد تم استجواب سميث وأعضاء آخرين في منظمة “فورتيفي رايت” عدة مرات، ولم يشرحوا كيف يمكن للأجانب الذين تم تمويلهم من قبل الحكومات التي خلقت التوترات العرقية في ميانمار أن يكونوا بمثابة مفتاح الحل لهذا الصراع،
ومن الواضح أن ما أنجزه البريطانيون قبل أجيال من أجل تقسيم بورما وغزوها في ذلك الوقت مستمر في ميانمار اليوم؟!.
إن ماثيو سميث ومنظمته والمنظمات الأخرى هم الوجه الجديد للمبشّرين الذين ساهموا في غزو جزء كبير من الأرض من قبل الامبراطورية البريطانية، وكان البروفسور بول جيفورد قدم رؤية لدور المبشّرين في ذروة الاستعمار الأوروبي في كتابه: “المبشّرون والجبهة في جنوب أفريقيا” في القرن التاسع عشر جاء فيه:
“إن دور الجمعيات التبشيرية في جنوب أفريقيا مثير للجدل من نواح عديدة، كانت أهدافهم المعلنة رائعة: خلق مجتمع مسالم دون حرب داخلية، تعليم الشعوب والنهوض بالمجتمعات، ومن الناحية العملية لعب المبشّرون أدواراً مغايرة ومماثلة لدور المستكشفين الأوروبيين والدبلوماسيين”.
ومن المفارقات أن ماثيو سميث نفسه يعترف: نحن غير راضين على الإطلاق عن النهج البريطاني تجاه ميانمار فيما يتعلق بالنهوض بالمساءلة، وندرك جيداً التاريخ الاستعماري الفظيع وعواقبه التي لاتزال مستمرة حتى اليوم،
ومن المثير للسخرية أن سميث هذا إما أنه يتجاهل أو يرفض الاعتراف بأن أزمة ميانمار ليست مجرد “نتيجة” للتاريخ الاستعماري البريطاني، بل هو استمرار لها!.
الحقيقة هي أن العديد من أولئك الذين سهّلوا مباشرة ارتقاء أونغ سان سو كي السياسي في عام 2016 يشجعون علناً الكراهية للجماعات العرقية مثل الروهينجا في ميانمار منذ عقود، كما حرضوا علانية ودعوا للعنف ضدهم، وقسم كبير من قاعدة الدعم لأونغ سان سو كي فاسد، وقد رفضت المجموعات التي حصلت على الإشادة والدعم من الولايات المتحدة علانية الاعتراف بالجماعات العرقية أو حمايتها، وخاصة أقلية الروهينجا، بل على العكس قاموا بالتحريض على الكراهية وحتى العنف ضد الروهينجا، وهذا لا يشمل فقط المتطرفين الذين يتنكرون ويزعمون أنهم رهبان بوذيون، بل أيضاً مجموعات سياسية مثل مجموعة الطلاب من جيل /88/ التي حصل عضوها المؤسس مين كو ناينغ على جائزة الديمقراطية لعام 2012.
كو كو غيي، عضو آخر في مجموعة طلاب الجيل /88/ التي تحظى بدعم وتمويل الولايات المتحدة، يسخر ويمضي إلى حد حمل السلاح ضد الروهينجا التي أسماها “الغزاة الأجانب”، واتهم “البلدان المجاورة” بتأجيج الاضطرابات في ولاية راخين، وذكر بشكل قاطع أن مجموعة جيل /88/ لن تعترف بالروهينجا العرقية.
كو كو غيي الذي أقسم في عام 2012 على تأجيج العنف الذي تشهده اليوم ميانمار، انتهى به المطاف في واشنطن عام 2013 بعد أن أدلى بتصريحاته الخبيثة لصالح الإبادة الجماعية، تمت دعوته بشكل خاص من قبل منظمة أمريكية للمشاركة في حلقة نقاش حول “دراسة التحول إلى الديمقراطية في بورما”.
للوهلة الأولى فإن منظمة” فورتيفي رايت” المكلفة بـ “التحقيق” في العنف ضد الروهينجا وغيرها من مجموعات الأقليات، بما في ذلك العنف ودعوات العنف من قبل المستفيدين الآخرين، تمثّل تضارباً كبيراً في المصالح يؤدي إلى تقويض شرعية التحقيق بالكامل، ويعزز شرعية حقوق فورتيفي “كمجموعة حقوق إنسان”،
وعليه، ليس من المستغرب أنه في تقرير “فورتيفي رايت”، المؤلف من 162 صفحة، تم تخصيص 4 صفحات فقط لـ “الجناة المدنيين” الذين هم على صلة مباشرة بالجيش، ولم يتم أي ذكر أو إشارة للمنظمات الممولة من الولايات المتحدة التي ترتبط بها، والتي تحرض عليها.

منظمات لإدامة العنف وليس لحماية الضعفاء!
تقارير “فورتيفي” الحقوقية إزاء ما يحدث في ميانمار انتقائية، في الوقت الراهن تلقي اللوم على الجيش وتحرضه على إزالة هذا المشهد بالكامل من المشهد السياسي في ميانمار، وبالتالي استبعاد أية عرقلة للمصالح الأمريكية والبريطانية لفترة طويلة، كما أنها تمهد الطريق للإطاحة بالحكومة المدنية إذا لزم الأمر.
كما تعمل منظمة “فورتيفي رايت” على تزويد حكومتها الغربية، والشركات والمؤسسات التبشيرية التي تمولها بذريعة لتصعيد التوترات العرقية بغية فتح الطريق أمام استعادة السيطرة على ميانمار وحكومتها، وجيشها، وشعبها، ومواردها، وثرواتها، وسياساتها، كما فعل البريطانيون عندما كانت ميانمار مستعمرة لهم.
بالتأكيد هناك دفاع حقيقي عن حقوق الإنسان والمنظمات غير الحكومية، وهي موجودة في المجتمعات المحلية، مدعومة من قبل الأشخاص الذين تدعي أنها تمثّلهم، وفي الوقت عينه لطالما كان الدفاع الدولي عن “حقوق الإنسان” ولايزال يمثّل اليوم صدى حياً لماضي أوروبا الاستعماري، وهذا يشمل “المبشّرين” الذين ساعدوا في تسهيله، وأصبحوا الآن “منظمات غير حكومية”.
فشلت منظمة “فورتيفي رايت” في الإجابة عن التساؤلات الشرعية المتعلقة بتمويلها وأساليبها، ومن بين تلك التساؤلات، لماذا لم تذكر في تقريرها الطويل أي شيء عن “الجناة المدنيين” الممولين من قبل أمريكا كما هو حالها تماماً؟.. وعلى الرغم من أن سميث نفسه يعترف بأن الاستعمار البريطاني قد فتح الباب أمام العنف العرقي في ميانمار، فإنه يقوم بدوره في استمرار العنف اليوم على أكمل وجه، وسوف تستمر الأزمة في ميانمار لأنها سوف تعطي الغرب الفرصة للتدخل في شؤونها الداخلية عن طريق الإكراه القائم على أساس “الاعتبارات الإنسانية”، في حين أن الغرب نفسه يغذي عمداً أطراف النزاع.
ومن أجل شعب ميانمار الذي يعاني الأمرين من الصراع العرقي المستمر، فإن طرد التدخل الأجنبي هو السبيل الوحيد لتحقيق استقلال الأمة، وهو الاستقلال الذي كان دائماً غير مكتمل بسبب مخلفات الاستعمار البريطاني الذي لا يزال يرهق الأمة اليوم.. إنه التقسيم الذي سمح للبريطانيين بالاستقرار، واليوم يستمر الانقسام بالسماح للمملكة المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بالبقاء في المنطقة!.