دراساتصحيفة البعث

بريطانيا تفقد ما تبقى من هيبتها

لانزال منذ مطلع آذار هذا العام نستمع إلى اتهامات بريطانية لروسيا، مفادها أن روسيا ضالعة في محاولة اغتيال ضابط الاستخبارات الروسية السابق سيرغي سكريبال وابنته يوليا، وتدّعي بريطانيا  أن الغاز السام الذي تمّ استخدامه في العملية كانت تنتجه روسيا في العهد السوفييتي السابق، ويحمل اسم “نوفيتشوك”، أي إن السلطات البريطانية تعرف سلفاً نوع الغاز المستخدم ونسبته، وطريقة صناعته، وحتى العلماء الذين أشرفوا على تطويره، ولكنها لم تقدّم إلى الآن الأدلة الدامغة التي تثبت أن الاستخبارات الروسية ضالعة في ذلك، بل إنها ترفض إشراك روسيا في التحقيقات بدعوى أن ذلك دون جدوى، فهي تجزم سلفاً أن إشراك الروس في ذلك لا يأتي بنتيجة، أي إنها تحكم سياسياً على الأمر، ما يسحب من التحقيقات التي تدّعي إجراءها صفة الشفافية الضرورية لإقناع العالم بصحة اتهامها، وكل ما يميّز هذه الحادثة حتى الآن أنها تزامنت مع سعي غربي واضح لاتهام سورية باستخدام السلاح الكيميائي ضد المدنيين في ظل وجود رفض روسي قوي لذلك، فما الرابط بينهما، وما علاقة بريطانيا حتى تتصدّى هي بنفسها لاتهام روسيا بهذا الأمر نيابة عن الغرب بأكمله، الذي يحاول الربط بين اتهام سورية، واتهام روسيا بشكل مباشر في حادثة سالزبوري، وهل جاء ذلك لابتزاز روسيا، ومنعها من الدفاع عن سورية في حال تمّ العدوان عليها بذريعة استخدام “الكيميائي”؟!.

من المستغرب حتى الآن أن من يقوم بتوجيه الاتهام لكلا الطرفين باستخدام السلاح الكيميائي أو الغازات السامة، يأبى أن يقدّم دليلاً مادياً دامغاً على ادّعائه، أو تشكيل فريق دولي محايد للتحقق من هذه الادّعاءات، بل يرفض مناقشة هذه القضايا تحت سقف منظمة حظر انتشار الأسلحة الكيميائية، وهي المعنية مباشرة بالتحقيق في مثل هذه الحوادث. هناك معادلة غريبة تجري في مسألة الاتهام باستخدام “الكيميائي”، فبريطانيا التي تتهم جهاز الاستخبارات الروسي بالضلوع في حادثة تسميم سكريبال، هي ذاتها التي تورّط جهاز استخباراتها بإنشاء منظمة الخوذ البيضاء التي فبركت مجموعة من المشاهد والصور لهجوم بسلاح كيميائي، زعمت أن الجيش العربي السوري شنّه على المدنيين في أماكن معينة من سورية، فما السبب الذي يجعل بريطانيا تتهم جهاز الاستخبارات الروسي بالقيام بهذا العمل في هذا التوقيت بالذات، وهل لذلك علاقة بنوع من الحوار يجري بين الجهازين الروسي والبريطاني على نحو ما؟!.

يستطيع المراقب للتوقيت الذي خرج به الاتهام البريطاني لروسيا بحادثة تسميم سكريبال إلى العلن، أن يلاحظ أنه سبق مباشرة العدوان الثلاثي الأمريكي البريطاني الفرنسي على سورية في نيسان، ما يعني أن الاتهام كان الهدف منه ابتزاز روسيا، ومنعها من الدفاع عن سورية في حال مهاجمتها للسبب ذاته، أو للقول: إن روسيا التي تدافع عن سورية في مسألة الكيميائي، هي ذاتها متهمة باستخدام الغازات السامة، لذلك لا تُقبل شهادتها جنائياً في هذا الإطار.

وعندما قلبت روسيا الطاولة على الجميع، وأصرّت أن يتمّ إجراء تحقيق دولي شفاف في كلا الاتهامين، وجدت الدول التي سعت إلى تجريم روسيا نفسها في مأزق، فعمدت إلى الهروب إلى الأمام عبر معاقبة روسيا تحت الاتهام ذاته دبلوماسياً واقتصادياً، معتقدة أن روسيا لن تتجرّأ على القيام بإجراء مماثل، ولكن روسيا عاملتهم بالمثل دافعة عنها الاتهام الموجّه إليها، وبالتالي بدأت الشكوك تساور بعض الدول الغربية، ولا سيما إيطاليا واليونان، حول صحة هذا الاتهام، ما جعلها تفكر جدياً بالحوار مع روسيا، وعدم الانجرار وراء الاتهامات البريطانية التي لا ترقى أبداً إلى مستوى الإثبات، الأمر الذي وضع الاستخبارات البريطانية في مأزق كبير، وسحب منها إمكانية تحقيق نصر، ولو إعلامي في هذا السياق، وخاصة أن هناك معلومات تشير إلى أنه في الوقت الذي اتهمت فيه بريطانيا روسيا بحادثة سالزبوري وقع حادث تسرّب في مختبر أبحاث كيميائية هناك، وربما أرادت بريطانيا التستر عليه، فاختلقت هذه الذريعة، لأنها لم تقم إلى الآن بالتخلي عن ترسانتها الكيميائية في الوقت الذي تتهم فيه روسيا، التي تخلت عن ترسانتها منذ أكثر من عام تحت إشراف منظمة حظر انتشار الأسلحة الكيميائية.

إذاً، تستكمل الحكومة البريطانية هروبها إلى الأمام من المأزق الذي وضعت نفسها، من خلال دفع النيابة الملكية البريطانية إلى الإعلان عن وجود مشتبه فيهما من الاستخبارات العسكرية الروسية بالقيام بمحاولة اغتيال سكريبال وابنته، لكن ثبت أن الشخصين مدنيان، ولا ينتميان إلى أي جهاز من أجهزة الدولة الروسية الأمنية، وقد صرّحا بذلك عبر وسائل الإعلام!، الأمر الذي أفقد بريطانيا ما تبقى من هيبتها.

طلال الزعبي