ثقافةصحيفة البعث

“القصة القصيرة جداً” في ملتقى حافل بالنقاشات والتباينات

 

مازالت القصة القصيرة جداً موضع جدل بين النقاد، يتصل بمسائل إشكالية حول تقنية كتابتها وفنيتها القائمة على الحدث والتكثيف والحكاية والرمزية، إلا أن العنصر الأساسي فيها هو القفلة المدهشة التي تثير المتلقي، لتتقاطع في زاوية منها بالومضة الشعرية كما في شعر الهايكو، ورغم اختلاف الآراء حولها إلا أنها شقت طريقها في عالم الأدب لتأخذ مكانها بصيغ جديدة، وهذا ما بدا واضحاً في الملتقى الثامن للقصة الذي أقامته رابطة القصة القصيرة جداً في سورية بإشراف د. محمد ياسين صبيح مدير الرابطة، وبإدارة الأديب علي الراعي ومشاركة الأديب محمد حفري في المركز الثقافي العربي –أبو رمانة-

بين المرور والوخز

الحضور الكبير من الأدباء والشعراء والمهتمين وإنصاتهم يؤكد التفاعل مع هذا النوع الأدبي، إلا أن القراءة السريعة أضاعت متعة الإصغاء إلى عوالم القصة القصيرة جداً التي تتطلب قراءة شعرية. وقد جاءت القصص بمستويات مختلفة من حيث استخدام المفردات التعبيرية ومن حيث المضمون، ومفردة العنوان المثيرة للمتلقي والمحفزة على التخيّل، فبعضها كان باهتاً لا سيما بالقفلة فمرت كأنها فكرة عابرة، وبعضها تمكن من وخز المتلقي بنهاية مدهشة غير متوقعة، وهيمنت ملامح الحرب بدخانها وقذائفها على كثير من القصص برمزية مؤلمة، في حين تطرقت بعض القصص إلى الخيبات والانكسارات التي تطال الأنثى، ومضى بعضها للإبحار بعوالم الخوف من الرجل الذي مازال قائماً بوجوه خفية وظاهرة.

ثمة عدد من الأخطاء النحوية التي بدت واضحة من خلال القراءات مما يتطلب التدقيق اللغوي والتشكيل كي لايساء إلى هذا النوع، فالتكثيف لايعني الابتعاد عن قواعد اللغة.

صياغات جديدة

وتحدث الأديب علي الراعي عن هذا النوع الأدبي الذي وصفه بالماكر والذي يمسك بطرف خيط من إبداعات كثيرة من الإبداع السردي حتى الإمتاع البصري بشدة تكثيفه الذي يفوق حجم النصّ بكثير، وأن النصوص التي صدرت في العقد الأول من هذا القرن تجاوزت الأشكال القديمة الموجودة في الأدب العربي، وتقدم بصياغات جديدة من حيث المقومات والجماليات، ليخلص إلى أنه من الصعب وضع شروط حاسمة لهذا النوع الإبداعي، وليعرّفها بأنها نصّ اجتمع في بنائه أكثر من تقنية لتعطيه مدى واسعاً، ويفتح المجال للتأويل ويقوم على الحكائية والحدث، مع خاتمة غاية بالإدهاش.

ثم تتالت القراءات التي تباينت من حيث اللغة والمضمون والإلقاء، فمن قراءات هنادي مصطفى التي جسدت حالات ذاتية تعيشها الأنثى لاسيما بارتباطها بالرجل ليبقى هاجس الخوف منه يلاحقها، كما في تقاليد”ترسم وفي عينيها رغبة، وضعت اللمسة الأخيرة، ظهرت الأجنحة، حدث شيء غير متوقع، ظل أمسك الفرشاة وأخذ يرسم حولها قفص”.

وتطرق بشار عليوي إلى الحرب الإرهابية بفنية غير مباشرة ومن جانب إنساني شفاف بالقفلة المدهشة لقصته”تعلق” وجدوا جثتي دون قلب، وفي جواز سفري تأشيرة خروج لاجئ”.

وتميزت قصص فهد حلاوة الذي وظّف الألوان لانعكاسات الحرب الإرهابية كما في قصته”ألوان” فجأة صار أسود برمزية إلى داعش، كما اتكأ على الاقتباس كما في قصة”اجتياح” احرقوا كتبي ودفاتر أشعاري” وعلى أعلام الأدب”رأس المعري” وعلى الأساطير”جلجامش وأنكيدو وسيزيف” وكذلك أعجب الحاضرون بقصص مالفينا الشيخ التي اتسمت بالقفلة المدهشة، ففي قصتها”صدفة” والصحيح”مصادفة” عشرون سنة انقضت وأنا أحلم أن نكون سوياً ورأسي على صدرك والذكريات نعيدها معاً، لكن لم أصدق عيني وأنا أراك تجلس أمامي في قارب مطاطي في عرض البحر، واقتربت من عوالم الأنثى لتبّين قسوة الزمن في “تصابي” غازلها بإتقان، داعب قلبها بحرفية، نظرت في مرآتها، التجاعيد تملأ وجهها، القلب مازال أخضر، صرفت عنها أفكار السوء، كسرت المرآة”، وتأتي القفلة الأكثر إيلاماً في”صدمة” عبْر الفضاء الأزرق غازلها ما أجمل عيناك؟ ردت عليه”أنا كفيفة”.

أما القاصة سوزان الصعبي فتطرقت إلى اليرموك بمباشرة لكن بقفلة مدهشة”يرموك” أول الطريق التفاف، ثم ساتر ترابي قد تسقط حين تهبط منه، ثم تتبيّن بعض الملامح، قوس فممر كان في الماضي شارعاً عريضاً لتدخل أيضاً في عوالم الأنثى” اكتشاف” كلما أتى المساء من دونه رسمت خطاً، لم تدر كيف انسجمت تلك الخطوط وبدأت تبشّر بلوحة جميلة، صلت لله كيلا يأتي قبل اكتمالها”. وتابع يحيى أبو فارس حليس بقصصه المتميزة بالمفارقات المرّة والسخرية”تكريم” أبرق لي مبتهجاً: كتبتُ مئة قصة قصيرة جداً، أسرعتُ لزيارته كي أهنئه، أحمل هدية له: سلة مهملات وفي قصته لقاء يمتزج الوجع الوطني بالدهشة يصل أخيراً إلى سوق التعفيش، أكوام من البضائع المكدسة عشوائياً للبيع، ينكب على كومة من الأواني يشتري منها، يعود أدراجه محتضناً صحناً مزخرفاً، كان فيما مضى يأكل فيه ابنه الشهيد، وتطرقت أيضاً عتاب كنجو برمزية وبجرأة إلى الاعتداء على الفتاة لتخضع هذه القصة لتأويلات تتعلق بالحرب الإرهابية وبحيثيات المجتمع”مفتاح الجسد” كما تطرقت في قصتها” امتداد” إلى الحرب الإرهابية”تناثلت طيور الظلام، بسكينة حلفائهم قطعوا الحبل السري”.

الخروج عن الكلاسيكية

وتتالت القراءات لتختتم بقراءة نقدية قدمها الناقد والكاتب محمد الحفري عن الكتاب الأول للرابطة”أشرعة من ضوء” تحدث فيها عن سحرية فنّ القصة القصيرة جداً وخروجه عن الكلاسيكية وتمرده على الشكل، وأثنى على المجموعة فهي أشرعة تحمل الضوء إلى كل من يؤمن بهذا النوع الأدبي، منوهاً إلى أن المنتج منه مازال قليلاً، وتابع بأن المجموعة ضمت قاصين من سورية والوطن العربي، وهو عمل تشاركي غني امتاز بنصوص مشغولة بحرفية وتعبّر عن هواجس اتسمت بالدهشة، وأثنت المدققة اللغوية للكتاب رغداء العلي على القاصين الذين أثبتوا جدارتهم لخوض عوالم هذا النوع الإبداعي، وأعجبت بتباين القفلات.

ندوات تحليلية ونقدية

الملتقى أثار مسائل عدة بين الحاضرين والقائمين على الملتقى فرأى الناقد أحمد هلال بأن القصة القصيرة جداً فنّ عابر للأجناس يمتاز بالقفلة التي تمثل بداية جديدة، وأشاد الأديب أيمن الحسن بالملتقيات التي ترسخ هذا النوع إلا أنه يرى بأن هناك فجوة بين الحاضرين ومعرفة تقنيات وخصائص هذا النوع، مما يتطلب إقامة أمسيات عدة وندوات تحليلية ونقدية عنه، ونوّه الإعلامي ملهم الصالح إلى مقومات هذا الفنّ الذي يكسر النمطية، وأشار إلى تباين مستويات القصص لاسيما لمن وقع بخطأ حرق الدهشة، وركز الناقد أحمد بوبس على خاصية الغموض في القصة القصيرة جداً، لينهي الملتقى د. صبيح بالتطور المعاصر لهذا النوع ومضيه نحو أساليب تجريبية تغني التقنيات السردية.

ملده شويكاني