ثقافةصحيفة البعث

الأكثر جنوناً.. من سيصل ثالثاً!

 

سورياليّة

من قال أنّ الشّعر لا يحترق،  وإذا احترق لا يدفئ، وإذا ترمّد تحت جمراتِ  ظلاله لا يُطهّر، وأنّ معتنقوه هم أشبه بعائلةٍ من المرضى الملتاثين بحمّى الماوراء، وهلوسات اللّغة ؟!. يُطربون لموسيقا الخواء، يعتاشون على صدقات المخيّلة،  ويتبجّحون بما لا يفعلون. هو ذاته من أفتى باعتبار الأسئلة حموضةٌ على طرف اللسان، محض كلامٍ ضرير، نحكّ شفرته بزناد الغيبِ ليتطايرَ شررُ الهباء، فإذا القلقُ نبع البغتة يغور عميقاً في شقوقِ المسافة، وإذا الشّعراء يتدفّأون بحرارة مرارتهم حصراً، ثملين هائمين على وجوههم، كائنات غرقى في أقصى قاع البئر. بئر الوجود العميق. قائل هذا الهذيان كائن متبحّرٌ بفقه السّهو، يفتّش في ثنايا العتمة عن بتلات عدم مزهر ينمو على غفلةٍ من براثن الأمل، منصتاً لأنين القصيدة، يتسلّقُ حنجرة العشبة في جوف صخرة صّماء.

شاعران يمتطيان أحصنة خيالهما، على مسافة برزخٍ من الرّيح، يتناوبان رشف خمرة الحلم من كأس المرئيّ دون أيّ ثقةٍ بالقادم من الأيّام. أحدهما، يرتدي  قميص خرابه، ملطّخاً بصور سهله الأزرق  وخربشات روحة المتصدّعة من كثرة الصّحو، يحاول بشباكه المثقوبة اصطياد ملامح سمكةً سحريّة، عبرتْ مخيّلته ذات بحر، ليسدّ فمَ جوعٍ عتيق لم يفارقه طيلة عمره الشّعري النّازف، رافعاً قبّعة المجاز حتى أقصى الدلالة، فإذ بـ “إلياناه” طيفٌ مخمور يزهو في غبش الرؤيا، أنثى بحجم  قامة الحلمٍ المشتهى، الذي أدمن الشاعر تعاطيه حتى اللحظات الأخيرة، معتكفاً في محراب دواليه تغدق عليه جنياً رطيبا. وإذْ هي إشارة حسن جوار تتلقفها ثعالبُ الأزرق اللّانهائي كتعويذة ماطرة، فيستكين عواؤها الخالد.

والآخر، يعيدُ تشكيل التّراب من آخر سطرٍ في رُقيم المطر وحتى اكتمال الأرق “معلّقاً حائط العالم على لوحته” الزّاهية، يُسدلها كلّ صباح على جسد الكون الرّحيب، مبشّراً بقيامة الكائن المجيد، مؤكّداً دون لُبسٍ في حضرةِ شياطين الشّعر: “أنّه ليس المكان المفضّل ليجلسَ على رأسه المقعد”. مهلاً، ألا يحقّ لمن كسر القاعدة التّاريخيّة في الوصول إلى اللّاشيء، أعني كلّ شيء، الـ”مراهن على من سيصل ثالثاً” أقول:ألا يحقّ له ما لا يحقُّ لغيره، بترشيح فوز العاشق مثلاً؟!.

ملتاثان بالشّعر حتى التّهلكة، جمعهما برد الشّام وفقر الحال في بيتٍ عارٍ من كلّ شيء، سوى من تحيّة استقباله الوارفة، يغدقها على كلّ غريبٍ جرفته لوثة الضياع في ضباب العاصمة، يشرف باقتدار على جبل “المزّة” المتناوم على حرير قربه من مركز المدينة.

ما الحلّ والصّقيع يكادُ يفتكُ بالعظام؟

من البداهة بمكان، أن يكون مرتدي “قميص الخراب”  أكثر برداً، من صديقه المتدفئ بمناقب صاحب الضّيافة، وقد ارتدى فرو عباءة كلّ صاحب واجب حقيقيّ على وجه البسيطة.

الجيوبُ مثقوبة وتبتهل، ولا إمكانيّة لابتياع العرق، فقد استُهلكَتْ النقود القليلة بشراء بعض السّردين ــ كان يوماً ما رخيصاً بشكلٍ مدهش! ـ والخضروات، لذلك استهدى شاعر “الرهان على من سيصل ثالثاً” بشمعةِ جنونِ العاشق، الجنون البهيّ المختلف الذي لطالما ميّزه دوماً عن الآخرين. بعد أن قاس ضآلة الخسارة بعلوّ قيمة الدفء الذي سيحصلان عليه بعد قليل. أضرم النّار في هيكل “الصّوفاية” اليتيمة، التي كانت تسترُ عريَ الغرفة وشحوبها، داعياً صديقه المقرور للتّلذّذ بقطفِ ثمار شجرة النّار. أُقسِمُ أنّني ما زلتُ أسمع هسيس الخشب المحترق والشّرر الأصيل يرتّل صلوات شكره العميقه لآلهة الدفء حتى الآن. فأخيراً سيرتاح الخشب العجوز من غربته وتعبه، بعد رحلة الشّقاء التي قضاها دون تذمّرٍ أو شكوى، ملبّياً نداءات زوّار الغرفة الكُثر وأطوارهم الغريبة “لقد كنتُ منهم” على مدى أعوامٍ طويلة. فتارة تكون الصوفاية مكاناً للجلوس، وتارة تتحوّل سريراً للنّوم، وأخرى لممارسة الحبّ لمن استطاع إليه سبيلا. الآن يستطيع الخشب المحترق ببسالة أن يرقد رقدته الأخيرة بكامل الرّضى عن النّفس، وقد لبّى بشهامةٍ عالية نداء شاعرين تعاهدا بدم القصيدة القاني على المضيّ قدماً في اصطياد فراشات الحلم. ألا يكفيه شرف ذلك؟!. ابتسم صاحب “قميص الخراب” الغارق في نعمة الدفء على قفزات غزالات الشعر وهي تقضمُ عشب سهبه الأزرق، ليهتفَ بحكمةٍ لا تتناسب مع طبيعته الغرائبيّة:  كنت أظنّ أنّني الأكثر جنوناً، لكنّك غلبتني أيّها العاشق!..تحيّة محبّة للشّاعرين الجميلين أصدقاء العبث المزهر”مازن الخطيب” الحاضر دوماً لتلبيةً نداء أسئلتي، و”عماد جنيدي” الحاضر نصّاً، الغائب جسداً، بطليّ هذه اللّوحة.

الرّجل الصّغير

صعد السرفيس بأبّهةٍ لا تتناسب وشكلَ الحافلة المغبرّ، متأنقاً بربطةٍ عنقٍ لزجة فاقعة اللّون تصلح كرسن. تكاد عروق رقبته تطقُّ من كثرة شدّها. رائحة عطره النفّاذة تنبئ بأنّه قد استعاض عن الماء منذ زمنٍ، مستحمّاً بمحتويات زجاجةٍ كاملةٍ من كافورٍ معتّق، قبل ولوجه الاحتفاليّ المخجلْ، لكنّها مع كلّ ذلك لم تنجح في كتم رائحة العرق المحروق التي تثير الغثيان، تنزُّ من كلّ مسامات زهوه. وثمّة هاتفٍ نقّال ذهبيّ الملامح كاد أن يسبقه إلى الجلوس في المقعد، يرنّ بلا انقطاع في راحة كفّه المتعرّقة المشرعة كسيف في وجه من يراه. لا شكّ أنّه رجل بغاية الأهميّة كما يتخيّل نفسه، فهاهو يوزّع المهام على أتباعه الغامضين، ويتلقّى الأخبار أوّلاً بأوّل من مصدرٍ عالٍ مجهول، قابعاً باحتراسٍ مبالغٍ فيه في مقعده المتداعي في سرفيس يئنّ صعوداً على الطريق الصّاعد إلى أحد أحياء العشوائيّات. وبهذا المعنى، خسارة النّظر إلى هذا الرجل الضّئيل المنتفخ لا تعوّض بالتأكيد. حديثُ نعمةٍ صنديد، هطلتْ عليه هبةٌ من السّماء بشكلٍ مفاجئ كالكثيرين من أمثاله هذه الأيّام. وقد أخذ يدور بنظراته المتعالية على وجوه كلّ الركاب، مستغرباً لماذا لا يرون اختلافه المبهر عنهم، ولسان حاله يتساءل: ألا يعلمون أنّ النّاس مقامات!. باختصار، كان شخصاً دبقاً تنطبق عليه مواصفات “الرجل الصغير” التي رسّخها ببراعةٍ عالم النفس الشهير “ويلهلم رايش” والذي يزدهر أمثاله في حالات التردّي المجتمعي وانهيار المنظومات القيميّة. يغفو بداخله ديكتاتور صغير يشبهه تماماً، يعتاشُ على الاستعراض الفارغ، قابل للنّموّ المرضي مثله تماماً. اللّهم لا شماتة ولكنّه مجرّد توصيف لما حدث: فالمسكين لم يكن يظنّ أنّه سيواجه موقفاً مخزياً بعد قليل، وهو المنهمك في أداء دوره الوظيفي، وتوجيه خطاباته الهامسة إلى كائناته اللّامرئيّة. ليفاجأ ببصقة السّائق المنطلقة كالقذيفة من النافذة، والمرتدّة بقوّة بفعل الرّيح المتسارعة إلى المقعد المفتوح النّافذة خلفه مباشرةً، حيث يجلس الرجل الخطير، وقد التصقتْ بوجهه لتغدو من ملامحه. لم يكترث السائق لفعلته غير المقصودة، ببساطةٍ لأنّه لم يرَ وجهتها الأخيرة. امتشق المتعجرف على عجلٍ، محرمة من جيبه ومسح خيوط شبكة العنكبوت بصمتٍ غريب، دون أيّة ردّة فعل إضافيّة، مستفيداً من غفوة أغلب الركاب في هذا الوقت من بعد ظهر يوم حار. التقتْ نظراتي بنظراته لجزء ضئيل من الثانية فأشحتُ بوجهي بعيداً، كي يكتمل المشهد.

أوس أحمد أسعد

 

Comments are closed.