دراساتصحيفة البعث

العالم الافتراضي والمخاطر الحقيقية

 

باسل الشيخ محمد

في الثاني والعشرين من تموز 2016 كان تسعة متسوقين في مركز ميونخ التجاري على موعد مع قضاء نحبهم عندما فتح المسلح ديفيد سنبلي النار عليهم من مطعم ماكدونالدز المجاور، خلّف الهجوم ستة عشر جريحاً، وانتهى الحادث بإطلاق المسلح النار على نفسه.

اللافت أن القوانين الألمانية تمنع بيع السلاح للأفراد إلا في حال رأت السلطات أن مهنة طالب السلاح تتطلب منه اقتناءه، في حين أن شراء السلاح بغرض الدفاع عن النفس غير شائع هناك، فمن أين حصل المسلح على أداته؟.. أشارت التحقيقات إلى أن الجاني حصل على السلاح من الأنترنت المظلم.

ثمة ما يقارب 4,7 مليار موقع على ما يعرف بالأنترنت المظلم Dark Web، وهو شبيه بالأنترنت العادي، إلا أنه لا يكشف عن هوية الناشر أو مكانه، يشبه الأنترنت المظلم الأنترنت العميق the Deep Web الذي يقدم منتجات غير تقليدية تمتاز بالخطورة، أبسطها تجارة العقارات غير المشروعة، والمخدرات، والبرمجيات الضارة، وفيه أيضاً يمكن شراء جوازات سفر، وهويات دول، بل وشراء أفراد وأسلحة من أنواع مختلفة، وأسواق كلا النوعين من الأنترنت مشفرة في معظمها، أي أنه لا يمكن الوصول إلى رقم تقريبي لتقدير حجم مبيعاتها، ناهيك عن عدم القدرة على تحديد هوية البائعين الحقيقية، ولا على وجهة الشحن والتسليم التي تتم باستخدام تقنيات شحن خاصة لا يعلم عنها أي شيء إلى الآن، يشكّل الأنترنت العميق والمظلم  96 بالمئة من حجم الأنترنت، بينما 4 في المئة فقط هي الأنترنت العادي الذي نستخدمه عبر المتصفحات الاعتيادية.

طبقة أخرى من الغموض تضاف حينما تقدم تلك الأسواق المشفرة خدماتها عبر طرف ثالث مجهول الهوية هو الآخر، لكن أمراً واحداً لم تكن العين لتخطئه، فالولايات المتحدة هي المصدر الأساسي من حيث عدد القوائم والصفقات الشهرية بنسبة بلغت 60 في المئة، في حين أن الوجهة الأكثر طلباً لشراء الأسلحة هي أوروبا، حيث إن عدد مشتري الأسلحة عبر الأنترنت العميق أو المظلم هو خمسة أضعاف مشتري السلاح بشكل قانوني، مثال ذلك ما قاله ليامليبورد في الثلاثين من تموز 2015 الذي نفذ مجزرة في نيوكاسل ببريطانيا، عندما أفاد أن شراء مسدس كان أشبه بشراء قطعة شوكولا.

أما أسواق الأنترنت العميق الباقية فموزعة حسب الترتيب على: الدانمرك، وألمانيا، واستراليا، وهولندا، والمملكة المتحدة، وكندا، والنمسا، وسلوفينيا، معظم هذه الأسواق تتعامل بآخر عملة بشرية هي “البيتكوين”، وهي بالإضافة إلى كونها الحدث فهي الأغلى من حيث سعر الصرف، حيث بلغت قيمة هذه العملة التي لا وجود فيزيائياً لها حتى كتابة هذه الأسطر  7,285.03 للبيتكوين الواحد.

لعملة البيتكوين سمات تجعلها العملة المفضلة لدى معظم التنظيمات الإرهابية منها أو الإجرامية، فهي عملة مجهولة المصدر، ومتاحة للشراء بسهولة كعملة افتراضية، كما يمكن نقلها بسهولة في أي مكان في جميع أنحاء العالم دون التعرّض لناقلها، أو مقاضاته، أو مصادرة العملة، بالإضافة إلى أنه يمكن تحويلها لمبالغ كبيرة دون إشراف من البنوك، أو دون أن يخضع صاحبها للقوانين الدولية لمكافحة غسل الأموال، بالإضافة إلى أن قيمتها تتضاعف من حين لآخر بطريقة غير معهودة في الاقتصاد العالمي.

من سجل التعامل بهذه العملة  التي تشكّل قوام التعامل المالي في الأنترنت العميق، ما كشفت عنه شركة “اس تو تي” عام 2015 السنغافورية، والتي عثرت على أدلة ووثائق تؤكد أن خلية إرهابية تابعة لتنظيم “داعش” تعمل داخل نطاق الأمريكيتين تلتمس من داعميها تعزيز جهودها بجمع تبرعات بـ “البيتكوين”.

هنا تبدو جهود اللجنة الرباعية لعمالقة الأنترنت في المنتدى العالمي لمكافحة الإرهاب (GIFCT) التي اجتمعت في أول آب العام الماضي بلا قيمة، وقتها اجتمع ممثّلو تويتر وفيسبوك وميكروسوفت وغوغل بهدف الاستفادة من التكنولوجيا الحديثة لإلغاء الصور المتطرفة عبر الأنترنت، لم تتمكن هذه اللجنة من منع نشر الصور المروعة، ولا من وقف استخدام إرهابيين لشبكاتها (خاصة غوغل).

أما في العالم الافتراضي السطحي الذي نستخدمه فالمخاطر من نوع آخر، فهي تشمل عمليات مدروسة لترويج أية شائعة، ومراقبة مدى التفاعل معها، واستقطاب من لم يمكن استقطابهم عبر العالم المخفي للأنترنت، وينظر خبراء الشائعات إلى الإنسان على أنه قابل للبرمجة بغض النظر عن خلفيته أياً تكن، إذ تصمم الشائعات على خلفيات تكتيكية أو استراتيجية ذات هدف معين وأسلوب غير ارتجالي، ولعله من الصواب القول إن الشائعات علم بحد ذاته، وليس أحد مكونات الحرب النفسية.. يقفز اسم الولايات المتحدة مرة أخرى إلى الواجهة بعد أن صوتت هيئة الاتصالات الفدرالية الأمريكية لصالح إلغاء قوانين تلزم شركات الأنترنت التعامل مع محتويات الشبكة الرقمية بحيادية، الحياد إذاً أصبح ممنوعاً بموجب القانون في الولايات المتحدة!.

هل يمكننا القول إن قسماً من الأنترنت يستخدم للسيطرة على العقل، فيما يستخدم قسم آخر منه لتوجيه الاصبع على الزناد؟ لماذا لم يحظر التعامل بالبيتكوين وهي أصلاً عملة لا وجود لها؟.. فإن تغاضينا عن هاتين الفكرتين، فأي تفسير يمكن أن يوضح مضمون ما قاله فريديرك دوبسير ممثّل اللجنة البلجيكية للخصوصية بأن “فيسبوك تفعل ما تفعله وكالة الأمن القومي الأمريكي، ولكن بشكل مختلف”؟ لاسيما أن دول الاتحاد الأوروبي شككت مراراً في سياسات الخصوصية التابعة لفيسبوك، وما فيسبوك إلا مثال، ولعل مواقع تواصل اجتماعية أخرى تمارس الأمر ذاته، ولكن لما يكشف أمرها بعد.

السؤال الذي قد يحمل إجابته في طياته: هل قدمت لنا وسائل الاتصال عن حسن نية أم لا؟ ربما كانت الفكرة شبيهة بصندوق النقد الدولي الذي ظنه الكثيرون قارب نجاة مجانياً، في حين تبيّن أنه ليس سوى ذراع جديدة للنظام العالمي تمتد إلى دول لا يراد لها الخير مهما حملت كلمة الخير من معان!.