تحقيقاتصحيفة البعث

لها آثار سلبية الضوضاء والتلوث السمعي.. تداعيات على الصحة.. وإزعاج يغيّب الراحة والهدوء

 

“جاءت معذبتي في غيهب الغسق كأنها الكوكب الدري في الأفق”، تصدح تلك الكلمات الجميلة المغناة بصوت فيروز صباحاً معلنة بدء نهار جديد في مدينة طرطوس السياحية، لكن هذا المقطع الموسيقي الجميل الذي يمكن أن تسمعه مع غيره من مقاطع وإيقاعات لأغان فيروزية محببة يألفها الجميع، لم يعد مرتبطاً فقط بفنجان قهوة صباحي، أو حالة مطلوبة لتعديل المزاج، وضرورية لاسترخاء الأعصاب، وشدّ الهمم قبل بدء يوميات العمل والنشاط في المدينة، فالصوت الفيروزي بحد ذاته مرتبط بعمل وروتين اعتاد عليه جميع سكان المدينة، ويعبّر عن تواجد سيارات توزيع الغاز في أحياء وشوارع طرطوس، وسماعه يكون عادة مؤشراً لتواجدها في المنطقة، ومع أن تلك الفكرة قديمة بحد ذاتها، إذ مضى على تنفيذها ما يقارب عشر سنوات، وأصبحت حالة اعتيادية، بل ومطلوبة في مدينة سياحية هادئة، لكن الأمور بالمجمل ليست كما يبدو، والهدوء الظاهري لطرطوس، والصوت الفيروزي فيها يعكّر صفوه الكثير من الضوضاء من مصادر أخرى!.

أعلى من المعتاد

مع أن معظم سكان المدينة ألفوا الصوت والأغاني الفيروزية الجميلة التي يمكن أن تسمعها في معظم أوقات النهار، وحفظوا عن ظهر قلب ارتباطها بسيارات توزيع الغاز، لكن بعض من استمعنا لآرائهم كانوا يشتكون من علو أصوات هذه المقاطع أكثر من الحدود المقبولة، لتكون في حد ذاتها مصدر إزعاج وضوضاء وضجة، يقول عمار، أحد سكان المدينة، بأنه بات اليوم يكره هذه الطريقة، وبات أيضاً يكره معها صوت فيروز بعد أن صعب عليه فك ارتباطه عن سيارات توزيع الغاز، في حين يتحدث حسين، وهو أحد سكان منطقة الكورنيش البحري عن كون هذه الطريقة حضارية، ويجب تعميمها في مدن أخرى باعتبارها وسيلة لطيفة للإعلان دون صخب وضجة، لكن المشكلة في التطبيق والتنفيذ من أصحاب السيارات الذين يرفعون الصوت أكثر من المعتاد، وهذا من شأنه أن يجعل الناس تنفر من هذه الطريقة، وتطالب بإيجاد حلول لها، ولكن في المقابل منحت هذه الطريقة الملفتة خصوصية لمدينة طرطوس، وتفرداً عن سواها من المدن في البحث عن طرق جميلة، وإيجاد حلول لمصادر الضوضاء والضجة التي يمكن أن تعكّر صفو السكان والمصطافين.

صخب وضجة

ولكن إذا كان صوت فيروز المرتفع أكثر من المعتاد مزعجاً لقلة من سكان المدينة، فالتذمر والشكوى من مصادر إزعاج أخرى يبدو متفقاً عليه من معظم السكان، فالجميع يتحدث عن استياء بالغ من الدراجات النارية التي تجوب الشوارع والحارات الضيقة في مدينة طرطوس متسببة بصخب وضجة غير مقبولة، ويطالبون بإيجاد حلول جذرية لها، يتحدث أبو علي، أحد سكان منطقة شارع العريض، عن حالة بات من الصعب تقبّلها لأصوات الدراجات النارية منزوعة العوادم التي تتسبب بضوضاء بالغة وضجيج مزعج، خاصة في المنطقة الممتدة من دوار عز الدين المتجه غرباً إلى الكورنيش البحري، إذ تعود هذه الدراجات من منطقة الكورنيش البحري ليلاً وتتسبب بحالة إزعاج دائمة في ظل غياب شبه كامل لسيارات ودوريات المرور والمراقبة في المنطقة، وما يزيد الطين بلة، بحسب سكان آخرين في مناطق أخرى، هو صوت استخدام الزمور من السيارات في جميع الأوقات، ودون مراعاة لأي مظهر حضاري، أو قانون مرور ملزم بعدم إحداث الضجة، وكانت ملفتة صعوبة الحصول على إجابات لعدد الضبوط المنظمة بحق المخالفين، سواء باستخدام زمور السير، أو باستخدام دراجات نارية منزوعة العوادم، فعند الاتصال برئيس فرع المرور في محافظة طرطوس العميد حسين مرعي أفادنا بصعوبة الحصول على تلك المعلومات دون موافقات رسمية وروتينية قد تطول، رغم أن معلومات كتلك يفترض ألا تسبب إحراجاً، أو تكون مصدراً للتعقيد والروتين.

لا يقل إزعاجاً

مع أن ضجيج السيارات والضوضاء الصادرة عنها كانت أكثر مصادر الإزعاج التي تحدث عنها سكان طرطوس، ولكن يبدو أن هناك أيضاً مصادر تلوث سمعي أخرى موجودة في المدينة، فأصوات الأغاني المرتفعة الصادرة من بعض المنازل حالة يمكن أن تلاحظها، وتستمع إلى بعض الشكاوى المرتبطة بها بين حين وآخر، وهو ما يتحدث عنه بعض الأشخاص بالقول إن هناك حالة من الاستياء لما يقوم به بعض الشبان الطائشين عندما يقومون بالتباري والتنافس في رفع صوت مجموعات الصوت المتوفرة في منازلهم، يقول علاء، وهو طالب جامعي: إن هذه المشكلة كانت سبباً في رسوبه في معظم مواده الدراسية للتوتر الذي أصابه، والحالة النفسية التي عاشها بسبب بعض الجيران المزعجين ممن كانوا يستخدمون تلك المجموعات الصوتية، ويضعون الأغاني الصاخبة.

تأثيرات اجتماعية

الجدير ذكره أن للضوضاء والتلوث السمعي آثاراً ونتائج سلبية أكثر مما يتوقعه أي شخص، وبحسب الدكتور إبراهيم ملحم، المدرّس في جامعة تشرين، واختصاصي علم الاجتماع، فالازدحام والضجة يؤثران غالباً على نمط التفكير، والصحة النفسية، ووجود الازدحام والضوضاء والضجة الكثيرة يسبب غياب الصحة النفسية، ويخلق نوعاً من القلق، والاضطرابات تصاحب الإنسان خلال يومه الطويل، فيصحو منهكاً ومتعباً على عكس ما يفترض أن يكون حاله، والمعلوم أن الضجة والضوضاء تسبب مشاكل صحية، وتؤدي لنقص الأوكسجين، وتتسبب في  الضغط على الجهاز العصبي، ويؤكد الدكتور ملحم أن الضوضاء تسبب اضطرابات في الصحة النفسية، وترافقها حالات من القلق وعدم التوازن الاجتماعي، وتقلل من نشاط وحيوية الإنسان، ويوضح الدكتور ملحم بأنه يمكن للأصوات الجميلة أن تصبح أصواتاً غير محببة بالنسبة للبعض، خاصة إذا ما ارتبطت بصوت سلبي سابقاً كصوت فيروز المرتبط بسيارات توزيع الغاز التي اعتاد الناس صوت الطرق للإعلان عن تواجدها، ورغم ذلك فهذه الظاهرة إيجابية، لكن استخدامها بطريقة خاطئة، ورفع الصوت كانا سبباً في المشكلة، وفي المقابل يتحدث د. ملحم عن استخدام الصوت بطرق أخرى للجذب أو الإعلان عن البضائع، كما يحدث في مدينة حمص مثلاً التي يقوم فيها بائعو الحلويات “المشبك والعوامة” بوضع أغان شعبية لجذب الأشخاص، وجعلهم يشترون منتجاتهم، وكذلك بالنسبة لبائعي “البوشار” في معظم المدن!.

مخاطر صحية

الملفت أخيراً، بحسب دراسات بحثية، وآراء طبية كثيرة، أن للضوضاء أخطاراً صحية مخيفة، منها التأثير على السمع، وما يصاحبه من فقدان جزئي أو كلي للسمع، حيث يقدر عدد الأشخاص الذين يفقدون سمعهم جزئياً أو كلياً في العالم سنوياً بعشرات الملايين، ومن المتوقع أن تزداد نسبة هؤلاء الأشخاص بالنسبة للجيل الحاضر من الشباب بسبب تعرّضهم المتزايد للضوضاء مقارنة بالأجيال التي سبقتهم، وتصل الضوضاء عبر الألياف العصبية إلى الخلايا العصبية المركزية في المخ فتهاجمها وتهيجها، ما ينعكس سلباً على أعضاء الجسم كالقلب الذي يسرع في نبضاته، والجهاز الهضمي الذي يضطرب فتزيد إفرازات المعدة، ما قد يؤدي إلى الإصابة بقرحة المعدة، أو قرحة الاثني عشر، كما يمكن أن تتأثر إفرازات الكبد، والبنكرياس، والأمعاء، والغدد الصماء، ومن شأن الأصوات العالية المفاجئة جعل الشعيرات الدموية تتقلّص، كما أنها تحدث ذبذبات في الجلد، وربما تحدث تغيرات في نشاط الأنسجة.

محمد محمود