تحقيقاتصحيفة البعث

آثار حلب.. ضائعة بين إمكانيات مالية ضعيفة وخبرات مهاجرة.. مواقع عريقة تندثر تحت وطأة زحف الاستثمار العقاري الجديد

حلب وتراثها العمراني كنوز لا تعوض، دُمرت ليس فقط بسبب الأزمة، بل هناك تشابك بين أيدي الفساد، والخلل الإداري، وسوء ترتيب الأولويات المعمول عليها حالياً، كل ذلك ساهم بتدمير الجزء الباقي الذي هو من أهم المباني التي تعكس عمارة متميزة تضاهي بجمالها أهم العمران العالمي.
لماذا كتب على هويتنا العمرانية أن تزال بهذه السادية والنفعية، وتحت أعين البلديات، والإدارة المحلية، والدوائر الثقافية والأثرية؟! بل أيضاً التدخل السلبي الذي تُسأل عنه الدوائر القانونية، ومجلس الدولة، وإدارة قضايا الدولة، وكيف ساهمت بهدم أبنية تعتبر من أهم الأبنية الأثرية في حلب، ورغم تسجيلها أثرياً، تم تخطي ذلك من خلال أحكام تمت صياغتها بدم بارد، ودون رفة جفن، أو تردد يصدر عن جميع من ساهم بوضعها رغم مخالفتها الصريحة لقانون العمران الأثري، وللتسجيل الأثري؟!.
تغييب الخبرات!
ما الذي يجعل لخبير هندسي يُشك في مصداقية خبرته، (كونه غير مختص بالآثار)، الدور الأهم في إنهاء عمارتنا التراثية؟! وكيف تصبح أحكاماً قضائية لم تمتلك وثائق إثباتها، حكماً في بقاء أو إلغاء أبنيتنا التراثية، بينما في المتابعة والتدقيق اللذين يجب أن يكون لهما الدور الأهم في السلطة الأثرية، خبراء الآثار، ودوائر المباني هي جهات غائبة أو مغيّبة لنفسها في حلب تحديداً!.. ورغم السعي الذي تقوم به إدارة المباني في مديرية الآثار العامة حالياً في محاولة التوثيق والتسجيل، فإن هذه المعركة التي تخوضها هي وجميع المهتمين بالأثر العمراني والتاريخي تشهد صعوبة في الحفاظ على القليل الباقي من تراث لا تعوضه تواقيع قد تكون مأجورة، وخبرات توسع جيوبها، وتضيق رأيها العلمي لصالح الهدم والبناء الحديث، ورغم توفر مساحات كبيرة من الأراضي قابلة للتوسع العمراني في المدن، فإن المنتفعين من تجارة العقارات والدوائر العامة يرفعون شعار الهدم للأبنية المسجلة والمعينة أثرياً ركضاً وراء الربح المالي، وما يدور في الكواليس تتمركز فيه المصالح التي تستغل الظروف والإمكانيات لجمع المال مهما سبب من خراب وخسائر وطنية!.

عيوب الإدارة
قمنا بزيارة حلب لسبر ما تفعله الإدارات المعنية بالحفاظ على تراث المدينة في ظل إشاعة إدراجها على لائحة التراث المهدد بالخطر، ورغم أن هذا الحديث شابته عيوب المصداقية، إلا أن الواقع أكد أن الأثر في خطر كبير، ولا يهمنا التصويت وغيره، ما يهمنا الحفاظ على تراثها المعماري الفريد في ظل أزمة كادت أن تودي بكل شيء، وأهم جوانب تخريبها للعمران الأثري تحديداً.
سنوات طويلة وحلب تعيش خللاً في أداء الإدارات المسؤولة عن حماية تراثها، مؤخراً هُدم مبنى أثري في الاسماعيلية في حلب، وأثار هَدم هذا العقار، وعدم معرفة كل من مديرية الآثار، ومديرية المباني، ومحافظة حلب بذلك الشكوك، وهو العقار 454 الاسماعيلية في حلب، وهو عقار تراثي مميز ومعين، وأصبح بيومين تراباً وركاماً، لترتفع الطوابق، وليجني أصحابه ومن ساندهم بالحصول على رخصة الهدم المكاسب التي حتماً لا تقارن ولا تعوض مبنى بهذا الجمال والتاريخية، والأخطر أن هناك محاضر أخرى قيد الوصول إلى الأيدي الوسخة، والوصول إلى هذه النتيجة!.
في مراجعة أوراق العقار المتضرر نجد الحضور الضعيف لمديرية الآثار، وانعدام صوتها في حماية الأثر المعماري، والغياب التام للتنسيق بينها وبين الدوائر المعنية في البلدية والمحافظة والآثار!.
كيف يتم الصمت عن عقار آخر رقم 633 تم هدمه، برأي خبيرة سميت مندوبة لمنح التراخيص خارج حدود المدينة القديمة، وهي كانت مديرة مبان، ووضعت إشارة بعدم هدم البناء، وتم ترقين الإشارة على مخطط استقامة العقار، وبكتاب مديرية الآثار، وفي كتاب آخر تلغي المهندسة نفسها أثرية البناء في رأي موجه للمحكمة الإدارية العليا، ولا تعطيه أية علامة أثرية، ما ساعد صاحب العقار على ربح الدعوى ضد مديرية الآثار، ورفع الصفة الأثرية، وهدم العقار!.
الأسوأ لماذا يكلّف الشخص نفسه المشكوك بأدائه بإدارة مديرية المباني، وعضوية اللجان الفنية التي تعطي جميع رخص الترميم البسيط، وتغيير الوظائف، والهدم، وإعادة البناء، والدمج، والإفراز؟!.
ورغم كل هذه التكاليف والمسؤوليات لم يتم تقديم تقرير واحد عن وجود أي تجاوز في أية رخصة تم الحصول عليها، على الرغم من أن اللجنة المشكّلة من قبل المديرية العامة أكدت وجود مخالفات لأكثر من 60% من الرخص المنفذة على أرض الواقع، ومخالفتها بنود الترخيص.
وعلى الرغم من ذلك يتم تكليف المهندسة نفسها بدراسة العقارات المعينة أثرياً في مناطق العزيزية، والجميلية، والاسماعيلية، والتي من مهامها تثبيت إشارة التعيين الأثري أو رفعها، واقتراح تسجيل مبان أثرية، والبت بطلبات الترميم، وكذلك تكليفها بدراسة تقييم الأضرار للمباني المسجلة أثرياً في حلب القديمة، والتنسيق مع مؤسسة الآغا خان لتمويل وتنفيذ العديد من مشاريع الترميم والصيانة للقلعة، والمباني الأثرية، وتم تسليمها أيضاً عدداً من لجان السلامة العامة، ما عكس السيطرة على مديرية المباني والآثار في حلب كلها.
وفي متابعة ما يحدث نجد أن مدير آثار حلب السابق رفع كل هذه المعلومات بكتاب إلى الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش، ولكن لا مجيب ولا متابع رغم خطورة ما يحدث، ولدى مديرية الشؤون القانونية في حلب نسخة من الكتاب المرفوع للهيئة، وينبئ الغبار المتراكم عن اعتماد نسيانه من قبل الجميع؟!.

“تعوا لنخربها”
وفي متابعة عمل مديرية الآثار في حلب نجد أن هناك خللاً كبيراً، فمن الغرابة أن يتم السماح لمحام باستلام مشروع باب النصر دون أن يقدم أية دراسة ترميمية أو مخططات مصدقة، عدا عن كونه غير مختص، أما التمويل فهو من قبل جمعية غير معروفة، وأعضاؤها من خارج سورية، ولا يعرف الدور الذي يلعبونه!.
ويقال أيضاً إن هذه المهندسة ذات الحظوة تستثمر سراً شركة للترميم الأثري بأسماء ظاهرة، منها المهندس ت. ك، ومتعهد المخالفات ب. د، وهم يحصلون على عقود لأغلب مشاريع الترميم في حلب القديمة، وخاصة على محور باب انطاكية، حيث قام متعهد المخالفات وشريك الشركة الأساسي بسرقة الأحجار الأثرية من القناة الفرنسية القديمة خلال تنفيذ مشروع صيانة الصرف الصحي، وحالياً يقوم بتنفيذ مشروع مخالف لمعايير الترميم الأثري بكل شروطها في سوق الزرب!.
ورغم مراجعتنا لمديرية الآثار، والمحافظة، والبلدية، ولكن للأسف لم تتوضح لدينا أية أدوار تقوم بها هذه المؤسسات والدوائر لحماية حلب القديمة، بل يعكس عملها وعدم اتصاله بالتنسيق المطلوب إهمالاً قصدياً لآثار حلب!.

لا يكفينا حسن الاستقبال
وفي المحافظة رغم استقبال السيد المحافظ ولطفه، وتقبّل الأسئلة التي تم تحويلها إلى مديرية الآثار للإجابة عنها، إلا أنه لدى سؤال مدير مكتب المحافظ عن الإجابات قال إن السيد المحافظ كلّف مديرية الآثار والمدينة القديمة بالمتابعة، والتأكيد على الإجابة فقط، أما المحافظة فلم تبد أي رأي يخص ذلك!.
وفي مديرية آثار حلب أجابنا المهندس أكرم قره كله بالتالي: “إن جميع العقارات التي تم وضع إشارة معين أثري عليها، والتي هي (180 عقاراً)، تمت مخاطبة مديرية المباني بدمشق بإعادة تقييمها، وتم تشكيل لجنة مشتركة بين المديرية العامة بدمشق ومديرية آثار حلب لتحديد واختيار العقارات المراد تسجيلها بموجب قرار صادر عن وزارة الثقافة، وذلك بعد أن يتم عرض العقارات التي تحتوي على صفات معمارية، وفنية، وتاريخية على المجلس الأعلى للآثار، مع وجود لجنة مركز المدينة التي تضم مندوباً عن الآثار، وجامعة حلب، ونقابة المهندسين، ومجلس مدينة حلب، تقوم بدراسة الأضابير التي تم تعيينها على هذه اللجنة، وأشار مدير الآثار في حلب إلى الدور السلبي الذي تسببه الإمكانيات المالية الضعيفة، والذي ينعكس على ضعف الترميم، وبهذا خلل كبير في الحفاظ على المباني القديمة!.
ولا يمكن أن نقول، حسب رأي مدير آثار حلب، إن هناك ضعف متابعة من الجهات العامة في الحفاظ على المباني القديمة، وهناك تعاون مشترك بين الجهات المعنية، منها المديرية القديمة، والآثار، والأوقاف، والسياحة، ويتمثّل ذلك باللجنة الفنية لحلب القديمة، ولجنة الحماية التي يترأسها السيد المحافظ، حيث يتم عرض الأضابير على اللجنة الفنية، وتدرس من قبلها، أما بالنسبة للعقارات خارج حدود المدينة فإنها تدرس من قبل لجنة مركز المدينة.
ومع تأكيد الخلل في نقص الخبرات الهندسية بسبب الاستقالات، والسفر خارج البلاد، فإن الكادر الحالي يقوم بعمله على الوجه الأكمل، رغم أن حجم العمل يفوق عمل الكادر الحالي الذي يحتاج أيضاً إلى الخبرة.

لا دور لنا خارج الحدود
أما مدير مدينة حلب القديمة المهندس أحمد الأحمد فأكد على دوره بمتابعة العمل في حيز المدينة القديمة الجغرافي.
أما العقارات التي هدمت في مناطق خارج حدودها فهذه مسؤولية مديرية الآثار والمتاحف في حلب واللجان المشكّلة بهذا الخصوص، وما يقع ضمن الحيز الجغرافي للمديرية القديمة، فالأمر متعلق بالأنظمة والقوانين، وخاصة نظام ضابطة البناء وحماية الآثار، أما العمل الإجرائي فتحدده لجنة الحماية، والنافذة الواحدة التي تقوم بالتنسيق مع الجهات المعنية.
وحول تسجيل الأبنية الأثرية اعتبر المهندس أحمد الأحمد أن ذلك مسؤولية مديرية الآثار في حلب، وبالنسبة للحفاظ على المباني الأثرية الواقعة ضمن حدود المدينة القديمة وفق قرار تسجيلها لعام 2002، فإن ذلك يتم بالتعاون مع مديرية حلب القديمة، والآثار، والأوقاف، والسياحة، والمجتمع الأهلي للحفاظ على الأجزاء المتبقية تمهيداً لترميمها.
وأكد مدير حلب القديمة أن جميع أبواب حلب الأثرية مسجلة بذاتها، وبكامل توصيفات الهوية الثقافية لها تاريخياً، ومعمارياً، وإنسانياً، وهي أحد مكونات النسيج المعماري والتاريخي لمدينة حلب القديمة، وكذلك العقارات المجاورة لها.

متابعة الخبرات
أكد المهندس لؤي دخيل (خبير) أن ما يساهم بالإساءة إلى تراث حلب هو كل من يعمل بطريقة عشوائية بعيداً عن الحد الأدنى للمستوى الفني والعلمي، وكل من يحاول أن يخفي احتمالات التشويه في المستقبل، وغير ذلك، منها قرارات المنظمات الدولية الخاصة بمدينة حلب، معتقداً أن ذلك يثبط من همة العاملين في إعادة الإعمار، وعلى العاملين في إعادة الإعمار أن يعملوا بالمستوى المطلوب علمياً وفنياً، وألا ينحرف بعضهم إلى الاتجاه المشوه، سواء عن جهل، أو بسبب مصالح شخصية ضيقة!.
أما المديرية العامة للآثار فعليها أن تجهز تقاريرها بشكل جيد في إطار الحفاظ على المدينة وآثارها الباقية، وعلينا أن نعمل بمحبة حقيقية مع وعي وإدراك علمي عالي المستوى.

متى يزورنا الوعي؟!
هل نستيقظ بعد هذا السبات؟! ما الذي حققناه لحماية الآثار؟! ما الذي أنجزناه في خطط التنمية الخاصة بالتراث والهوية العمرانية؟! لا شيء يذكر على صعيد الإنجاز أبداً!.. ففي ظل تخصيص مبلغ لا يكفي للثقافة ككل للنهوض بدورها، حتماً سنجد أن الثغرات ستنتشر وتتوسع، وها هي الأبنية المسجلة ترتفع عن سجلاتها إشارات ترقينها الأثرية، وتهدم خلال 48 ساعة، ولم يبق من عمرانها المميز إلا جوار كانت تماثله وتزداد هباء قبل أن تهدمها معاول الإهمال والنفعية، ولتنتظر هذه الأبنية دورها الحتمي في الهبوط والإلغاء، لترتفع عوضاً عنها الأبنية الطابقية التجارية التي تخالف شروط عمرانها، رغم تأكيد المهندس أحمد ديب، مدير المباني في المديرية العامة للآثار، على أن جميع الأبنية المعينة هي أثرية حكماً، ويأتي التسجيل كتأكيد على ذلك، فيما أكد مدير عام الآثار والمتاحف محمود الحمود على طلبه تسجيل جميع المباني الأثرية في حلب، سواء كانت معينة أم لا، وتم توجيه مديرية آثار حلب بذلك.
وللأسف ها هي المخالفات في حلب تتنوع بين عمران سقيفة على كامل مساحة المحل، ووضع مصاعد لها، وفتح أبواب على الفناء الداخلي، وهذا يحدث في جوار خان الوزير الذي لم يشفع الكيلومتر الذي يبعده عن القلعة بحفظ ماء الوجه، وتخفيف المخالفات، وحفظ النسيج العمراني الموجود، نحن نحتاج إلى إعلاء الصوت، فكفانا تخريباً لنسيجنا العمراني الأثري والمتميز الذي هو تاريخنا وهويتنا.
فقط ما يهم هو المساحة التي تشكّل البناء التراثي، وهي بيت القصيد، وكنز الأرباح، وحين لا تكون الإدارات المعنية بالحفاظ على مستوى المسؤولية فسنصل إلى أكثر من ذلك، لترفع أيدي قضايا الدولة عن تراثنا وتاريخنا الذي تشهد له بنود تسجيله على لوائح التراث الإنساني.
نحن لا تهمنا منظمات دولية، بل إننا معنيون بالحفاظ على ما بقي من تراثنا، ولنراجع أوراقنا بروية لنكتشف حجم التخريب، وفداحة الخسارة، مطلوب أن تأخذ كل مؤسسة دورها الفعلي المنوط بها، وألا يتحكم بالقرار طرف، أو جهة، أو مهندس، أو مهندسة، أو بلدية، أو محافظة، مطلوب تواجد كل هؤلاء في تشابك مطلوب لحماية آثار حلب المتبقية، ودرءاً لخطورة تدميرها.
ابتسام المغربي