ثقافةصحيفة البعث

“الثقافة والواقع”.. نحو نظرية للنقد الثقافي 

 

لا ثقافة بلا مجتمع ولا مجتمع بلا ثقافة، فالثقافة ميزة الجنس البشري، ورغم كثرة تعريفاتها، وتشابه هذه التعريفات، واختلافاتها؛ إلّا أنّ تعريفها ظلّ حتى بدايات القرن العشرين ضمن حدود تقليدية؛ فهي في مجتمع ما؛ معرفته واعتقاداته وفنونه، وقوانينه، وأخلاقه، وسلوكه، ورموزه، وأنماط حياة أفراده منتهية إلى أنماط  اجتماعيّة كليّة.

وعلى مشارف القرن الواحد والعشرين أُضيف إلى مفهوم الثقافة النظريّة القابليّة الاجتماعية للنمّو والتغيّر، فدخل إلى مفهومها المُنْجَز مفهومات قيد الانجاز والعمل عليها، ودخلت الثقافة عالم الحلم والأمنية والوهم والخيال والغريب والعجيب والمدهش؛ يشدّها المستقبل إليه بحبال متينة، وطرق متسارعة الخطى، ولم تعد تستطيع أن تبرأ من تأثير إنتاج العولمة.

تؤكّد الكاتبة والناقدة الأدبية البريطانية كاترين بيلسي في كتابها “الثقافة والواقع” أنّ  الثقافة باتت من الخطورة بحيث هي التي تّشكل هويّات البشر إذ تعلن الثقافة عن مشروعها الأكثر إلحاحاً وهو الإبداع، وتحدّد هويتها أكثر فأكثر في السؤال، لا الجواب؛ فالثقافة تموت في الجواب، وتحيا في الأسئلة المستمرة؛ ومن هنا تؤكّد بيلسي في كتابها على ضرورة اعتراف البشر بالأشياء التي يجهلونها، فهي المنبع الثرّ الصافي للثقافة، لأنّ الثقافة لا تقدّم لنا الواقع كما هو؛ لأنّ الواقع لا يشكّل الثقافة؛ بل على الثقافة أن تُشكّل الواقع فتغدو بهذا المنظور هي الحلم والخيال، والحب، والوهم، واختبارات العقل، والروح، والجسد، وفي ظلال هذا الطرح لا تعود الثقافة  تكمن في ما ننتمي إليه بل في ما نخلقه حيث أنّ شمولها للماضي والحاضر ليس شرطا كافيا لاكتمالها، لأنها فعل مستقبلي تأتي من المُنتظًر، وتذهب إليه، حتى تغدو الثقافة وكأنها الشيء الذي لا يمكن قوله، فهي ظلال الصور وعليها أن تترك بصمتها الغامضة المنطوية على المأمول فتلتقي كاترين بذلك مع مقولة جان لاكان: (الواقع هو كل ما لا يعتمد على فكرتي عنه).

طرحت بيلسي في كتابها مجموعة من التساؤلات من قبل: هل الطبيعة البشرية هي أساس الثقافة، وأين يكمن سحر الثقافة وتأثيرها، وما درجة عناية الثقافة بالتغيرات الاجتماعية.

تُركّز بيلسي على العلاقة بين الثقافة والواقع، وعلى أنه لا يمكن فهم الثقافة إلّا بادراك العلاقة الجدليّة التي تجمعها بالواقع؛ حيث لا تنجو هذه العلاقة غالبا من فجوة سببّها السخط وعدم الرضى الذي يدفعنا دوما إلى الرغبة بالأفضل، وبذلك يغدو الواقع هو غير المتحقق؛هو المأمول؛ وهو السؤال بدلا من الجواب؛ فالاختلاف هو ما يجعل الفكر مستمرّاً.

تطرح كاترين في كتابها نظرية ثقافية في غاية الأهمية والجدّة؛ فتُقرّب مفهوم الثقافة من عالم الشعور والأحاسيس، بل تجعل هذا العالم منبعاً للثقافة فتُذَكّر بمقولة فرانسوا ليوتار: (هل يمكن للفكر الاستمرار من دون جسد؟) لتقول كلمتها وهي (الواقع هو سرّ الجسم الناطق وسرّ اللاوعي) وتغدو الأحاسيس طريقا للوعي الذي يقودنا إلى المواطن التي نعثر فيها على أنفسنا.

وهكذا فالواقع المتوجّب تحقّقه هو فوق أفكارنا، وعلينا أن نتسامى وصولاً إليه، وهذا ما لم تمنحه الحداثة اهتماما كبيرا، فقد كان عصرنا – حسب بيلسي – يميل إلى الجنس، و يُبرّر ذلك بفرضية الكبت عند فرويد، لكنّ هذا التصور سبّب قلقاً في الحضارة وصار من الواجب أنْ ندفعَ عن الإنسان العدوانية المفرطة بنبذ الغريزة، ليكون هذا النبذ مصدرا ديناميّا للضمير، ثم يعود التسامي للتصالح مع الحب الرومانسي واللقاء المستحيل في ما بعد الحداثة.

كل شيء يدخل في تكوين الثقافة بدءاً من لحظة الولادة حتى الموت فنحن نستمد من القبور الكثير من الثقافات البائدة، فرغم أنّ الموت واقعيّ لكنه يقدّم بدلاً من الحياة الأبدية النصب التذكاري نصّا ثقافيّا يُلمّح مباشرة إلى فقدانٍ ما، ولأنّ الخير المطلق غير موجود فيمكننا أن نستمد الثقافة حتى من الأشياء المحرّمة أو المميتة كما في الإبداع المستلهم من نظرية القتل المعنوي للأب أو الأم.

أما عن علاقة الثقافة باللغة، فاللغة بيت المثقف، وهي أيضا مادة حلمه المكنوز بالمعرفة؛ ففي وقت يرى فيه هيغل أنّ اللغة وسيلة للهروب من سجن الوعي الفردي فتسمح للذات بوجودها في ذوات أخرى، تؤكد بيلسي أنّ اللغة وحدها هي ما يحولنا إلى ذوات، ولذلك  ينصبّ اهتمام الكتابة الحداثية اليوم على ما يعتمل في أعماق النفس الإنسانية فيخرج الأدب قاسيا جدّا في لهجته، وكئيبا في محتواه تذكيرا بواجب الثقافة في الإصلاح، وينقلنا الأدب الحداثي اليوم إلى (الفن المفاهيمي) وهو المصطلح المرادف تقريبا لمصطلح ما بعد الحداثة، المرحلة التي يُعرّفها ليوتار بأنها وقحة بطرق مختلفة، ومُبتكَرة، ومُسليّة؛ فتلميحاتُها إلى التقليد الواقعي تدعونا إلى التفكير في قيود الشكل الذي خان وعده، والمتمثّل في تقديم الحقيقة في الرسم والخيال.

وفي الثقافة نحتاج دوما إلى النخبة والطليعة تحديّا للقواعد، وتحويلا للتحدّي إلى قاعدة؛ فتتوغل الثقافة آليّا، وبالضرورة في عمق فضاءات لم تتحدّد معالمها بعد، ممّا يلزم المثقف أن يكون قوة أساسية تتصدر قوى المجتمع الفاعلة، وتواجه مشكلات علاقة المثقف بالسلطة، والناس، والعلاقة بين المثقف الأخلاقي والمثقف الثوري، ودور المثقف في تشكيل مفاهيم وطنية وقومية وإنسانية.

د. وضحى يونس