ثقافةصحيفة البعث

“مسح جغرافي لقمر تاريخي”.. نصوصُ نسويّة مختلفة

 

لعبةُ العنوان:

الكلام العادي اليومي إخباري، وتلك هي وظيفة اللّغة المباشرة النّفعيّة التّواصليّة التي تقوم بمهمّة الإفصاح عن المراد إيصاله وحسب..ولكن ثمّة طريقة أخرى في استخدام الكلام تشبه لثغة النّبع، وهسهسة المطر على أغصان الصّباح، طريقةٌ تشبه تدوير زوايا اللغة لتأخذ الكلمات توضّعها في فضاء هندسيّ جديد، مزيحةً الكلام العادي عن سكّته الأفقيّة إلى فسحةٍ جماليّة مجازيّةٍ ينزلق فيها عن سطح مألوفه، أسلوبٌ يُفسحُ المجال لعلائق أخرى تُعلي من شأن الدلالة الشاردة عبر تذويبها في مياه النّص،أو إرجاء كشفها عن عين القراءة المختلفة كما قال يوماً “ديريدا” تلك هي ديناميكيّة الكتابة الجديدة التي تعمد إلى إقلاق راحة القارئ، وانتشاله من سباته. فلقطف عنبِ الدلالة “الغائبة الحاضرة” عن دوالي النّص، لابدّ من قارئ له مواهب “لصّ الكروم” من حيث الترّقب ومهارة القطف وجودة الانتقاء. قارئ يتوفّر على ذائقة وحساسيّة تلقٍّ جديدين. قادر على استيعاب خلطة كيمياء المنتج الجديد واستخلاص نبيذه. هي لعبةُ الشعر السّحريّة إذن، بل ومحنته أيضاً!. أن يكسو الكلام زيّاً قشيباً، لم يكن ليتوفّر له لو بقي رهين معطفه المثقوب القديم.هذا الكساء الجديد هو عريٌ آخر أيضاً لا يستر جسد النّصّ بمقدار ما يعرّيه بمعنى ما، لكن إذا كان الانزياح شديداً وأعلى من طاقة اللّغة المأخوذة بهاجس الإدهاش، فإنّه قد يصبح تغريباً وتجريباً مجّانيّاً تستهجنه حتى الذائقة المتطوّرة. وهنا تكمن محنة الشعر، حيث تتقبّبُ اللغة وتتجوّف،ما يُفقد المتلقي متعة الكشف. فالشعر بالمحصّلة ليس إعمالاً فكريّاً أحفوريّاً للذهن في ثنايا النّصّ، ولا هي مهمّة القارئ أن يركض وراء بهلوانيّات الأديب اللغويّة وألغازه محاولاً التّنقيب عن ماء الشعريّة الشّحيحة فيه. عنوان مجوعتنا الشعريّة قيد القراءة “مسح جغرافي لقمر تاريخي” للشاعرة الدكتورة “وضحى يونس” إصدار “دار الحوار” في اللاذقيّة.

لو اعتمدنا حالة التلقّي الأوّلي له، لفوجئنا بجفاف مفرداته خصوصاً إذا نزعنا مفردة “قمر” من السّياق، ليغدو “مسح جغرافي تاريخي” ولظنّناه دراسةً أكاديميّة  ممجوجة في التضاريس الجبليّة والتاريخ الممل. هكذا لم يكن لأفقيّة الجملة العارية الشّعريّة أن تكتسي بالريش لولا بهاء كلمة القمر التي أضاءت العتمة وخلخلتْ البنيان اللّغوي باتجاه المجاز وشعرنته، ليطير مصفّقاً بجناحيه في فضاء التّخييل. تلك هي مفارقة العنوان، بل قلْ لعبته المقصودة الهادفة لكسر تراتبيّة العبارة الجافّة، وإحداث الدهشة المطلوبة لدى القارئ. ثمّ ما معنى “قمر تاريخي” ولماذا نصدّق بأنّ الشّاعرة تسعى لسبر أغوار تضاريسه الجغرافيّة؟ بالتأكيد لاشيء من كلّ هذا، فنحن لسنا بصدد دراسة طبوغرافية. فلو قرأناه هكذا لظلمناه وظلمنا اللغة والشعر. ثمّ من قال إنّنا يجب أن نبحث مراد الشاعر لتفسيره؟ ألا يكفي قارئ الشعر دهشةً أن يراه ضرباً من المتعاليات ومعانقة الماوراء؟!.

وعول القول الشّعري

تقول الشّاعرة: (أيّها القول قلْ شيئاً غير كلّ ما قيل، أخرجنِي من الشّبه أدخلني في الشّبيه). هي دعوة لاجتياز مناطق وعرة وأماكن بور لم تُستخدم بعد. أمنية مشروعة تصبو بهواجسها نحو الاختلاف. وقد كان لها ذلك، من خلال استطاعة نصوصها تجسيد تيمات عديدة أراها واضحة في تلافيف وظلال قولها الشّعريّ. فالمتعارف في الكتابات النسويّة الأدبيّة “طبعاً الإبداع ليس مشروطاً بالجندر أو الجذر البيولوجي الذّكوري والنّسوي، إنّما من ضمن شروطه، الموهبة والحساسيّة الخاصة المطعّمة بمهارات ومنهجيّات جديدة تساهم بتوسيع أفق الذّائقة..الخ” أقول في الكتابات النسويّة الدّارجة نرى الإغراق في التفجّع والاحتراق المجّاني بسبب الفقد وهجران الحبيب وخياناته والتّماهي بدور الضحيّة والشكوى السّلبيّة من سيطرة الثقافة الذكوريّة… الخ.. لكّننا هنا أمام حالة متطوّرة تجلّتْ بقدرة تعاطيها مع النّصّ ومع الآخر وثقافته بنديّة، إذا لم أقل  بتفوّق مشبع بإحساس الذّات بجودة أدواتها. فإذا كان لا بدّ من الاحتراق بالتّجربة وهذا شيء أكيد وضروري، فإنّ خوض الكاتبة لتجربة العشق والاحتراق كان تطهّريّاً ورماده مختلفاً، صقلته تجربتها الوجوديّة بشكلٍ أعمق، كمحيطٍ يحتوي روافده الصّغرى ومن ضمنها عشقها للرّديف الذّكري الذي هو مجرّد تفصيل ضمن هذه الحالة الكليانيّة. هكذا نرى النّصوص مشبعة بحالات تصوفيّة ترتكز على خلفيّة معرفيّة وأكاديميّة غير تقليديّة استطاعت تطويع اللغة ليس بالمعنى النّحويّ وهذا من النّوافل، بل برفعها لسقف المجاز عالياً وتذويبها  الحقائق العلميّة في معادلاتها الشّعريّة بما يمكن تسميته بـ  فيزياء شعريّة” ما أفسح المجال لإمكانيّة تأويلات مختلفة للنّصوص. وقد لجأتْ الشّاعرة بوعي إلى زجّ اللّغة في تقنيّات أسلوبية عديدة، ساهمت في زيادة جرعة الشعريّة عندها: كالتشابيه والاستعارات والكنايات والتّقديم والتّأخير والتّكثيف والاقتصاد والتخفّف المدروس من أدوات الربط إلّا للضرورة، واستخدام الثنائيّات الضديّة التي تعمّق فجوات النّص وتزيد من بؤر توتّره مفسحة المجال لماء الشعريّة بالتدفّق أكثر من خلال الشقوق، إلى جانب التّقاطعات والتناصّات مع نصوص شعراء قدامى أو النصوص الصّوفيّة عموماً والمأثورات التاريخيّة والنصوص المقدسة وامتصاصها ضمن النسيج التّخييلي العام. وهذا بدوره وسّع مساحة الرّعي أمام وعول القول الشعري لتتقافز جذلى في مختلف جهات العشب، حيث ما إن تكاد تطبق عليها شباك الصّيد “شباك القراءة” حتى تجد دغلاً يساعدها في التّمويه، أو سفحاً موارباً يتواطأ في إخفائها، أو تلّة تسدل ظلالَ عتمتها عليها، ليبدأ القارئ من جديد رحلةَ بحثه في التّأويل والتّأويل المضاد، وتلك جماليّة تفتقدها نصوص كثيرة ليس فقط على الضفّة النّسويّة من نهر الكتابة، بل على الضّفة الذكوريّة الأخرى منه أيضاً.

خزفُ الشعر

زجاج الشعر، قابل للخدش أو للكسر، فهو الأجمل في شظاياه، ما يريده منك ويدفعك قصداً لفعله دون تلكؤ، أن تتقنَ  تصويب ورمي الحصى على قصره البلّوري، علّها تنال منه مفصلاً أو شرفة أو نافذة أكثر هشاشة أو قاعدة موّهتْ دعائمها بضوءٍ أقل. تقول الشّاعرة: (أسكنُ في الشّرفة العليا، من أغنية مطلّة على البحر، أذوبُ في النّغم وأسيلُ دمعة على خدّ الحنين). هيّا اقذف حصاتك أيّها القارئ باتجاه هذه الشرفة لترى كيف سيتناثر الورد!.

تقول الشّاعرة: (في أوج الفراق نلتقي، فرغم موت الحياة ورغم ذبحه مراراً ما زال في الأفنان يرقصُ غصنٌ لنا) إنّه تفاؤل بعيد عن المجّانية، يورق كأمل حقيقي، بمحاكاته لطبيعة الحياة ذاتها، تلك التي تتوالد فصولها تباعاً. إذْ يكفي أن نثق بالحياة وبقوّة الكائن لنستطيع رؤية الزهرة في قلب الشّوكة. تقول: (اذهب أيّها المعنى فأنت حرٌّ طليق ولست ملكاً لأيّ لفظ). ألا يتجلّى ذلك واضحاً في فضاء النّصوص المتعالية التي بين أيدينا؟ حيث الدلالة تحلّق بجناحين من عتمةٍ وضوء مشكّلةً لوحة الحريّة التي لن تكتمل. حريّة التّأويل وهي تغرف من حريّة المؤوَّل الفائض عن حواف ذاته، عفواً من قال بالاكتمال، أليستْ اللّوحة نقصان دائم؟!

وتقول: (حتى أنتَ يا بروتس؟هكذا تكلّمت فراشة وهي ترتمي عاشقة على صدر مصباحها) لاحظوا كيف تمتصّ اسفنجة الشّعر ماء القول المعروف “للقيصر حين طعنه صديقه المقرّب جدّاً منه بالخنجر” مذوّبةً إيّاه مع الحقيقة الفيزيائيّة التي تدفع الفراشة باتجاه الضوء بمغنطةٍ لا تدري كنهها، ليتحوّل المقطع إلى مشهديّة شعريّة يمتزج فيها العاشقٍ بالمعشوق، أو بالأحرى لتغيب الفواصل بين القاتلٍ والضّحيّة. وبفلسفةٍ ما، نقول: يأتي الموت المجازي هنا كإنقاذٍ أو ضرورة لتخلّيص الجسد من ناسوته ليتّحد بلاهوته. وتتساءل الشاعرة بمكانٍ آخر سؤال العارف الذي لا ينتظر جواباً: (أيّة محنة أن نعبرَ حياةً واسعة من برزخٍ ضيّق؟). إنّها لمتعة حقيقيّة أن نعبر البرزخ، لأنّ المعرفة تفقد متعتها حين تأتي على طبقٍ من فضةٍ، فهي سليلة المكابدة والتّخمّر البطيء على نارٍ هادئة. لا طعمَ لها إذا لم تعبر صحراء سرابها وتضيع في مفازاتها الشّائكة الضّيّقة وتتسلّق حوافها الناتئة، لأنّ الإشراق واتساع الرؤيا لا يحضران مستمطرهما إلّا باجتياز البرزخ  نحو شساعة الفضاء.

وتقول: (مجانين أولئك الذين يخرجون من باب الدّخول) نعم، فخلخلة المألوف والخروج عن السّائد هي طريقة الفلاسفة والشّعراء الحقيقيّين. هم مجانين بهذا المعنى، ولكن هل للشعر الصّافي جغرافيا تتسع لجنونه وجموحه؟ ألا ترهقه التّخوم ويفرّ من الأقفاص إلى عوالمه الرحبة مصادقاً السّراب؟ وهل ثمّة أبواب واضحة للدخول والخروج هنا؟ أليست المعرفة مجرّد عتبات ولوج متداخلة ومتخارجة، تذوب فيها المعايير والمصطلحات، ثمّ كيف لحدودٍ، أن تتّضح في ضباب الشعر وزئبقه الحالم!.

وتمضي الشّاعرة بريبيّة ديكارتيّة تكاد تنسف كلّ ما سبق من تصوّرات مهادنةٍ ساقتها عبر نصوصها، لسماوات متعالية يفترض أن تكون مسكناً للآلهة حسب الفكر الغيبي، تعاقبُ الأرضَ  حتّى “يزورّ عنها الأنبياء” لتقول: (الرعاة رهائن أساطير، أساطير الأوّلين والآخرين والذئاب تنهشُ القطعان). للمفارقة، أنّ أغلب الأنبياء كانوا رعاةً، ثمّ إنّ من الرّعاة من كان  يكذب، وهذا ما تقوله سرديّة معروفة: بأنّ أصحاب القطيع ملّوا من تكرار كذب الراعي حول هجوم الذئاب على القطيع فلم يصدّقوه، حتى أتتْ الذئاب يوماً وفتكتْ بالقطيع رغم استغاثة الراعي الصّادقة حينها بهم، ولكن..!

 

آخر الكلام

النّصوص  قابلة لأكثر من قراءة، لكنّني كنتُ أتمنّى من الشّاعرة المحترمة لو أنّها تجرّأتْ وألغتْ عناوينها الفرعيّة الداخلية، فحذفها لن يغيّر شيئاً، كونها مقتطعة من سياق النّصوص، وأيضاً لأنّها بدتْ كمن تقوم بمهمّة الشرح والتفسير اللّذين يتنافيان مع طبيعة الشعر الحقيقي. كما أنّ وجودها خفّفَ من التزام الشاعرة بقاعدة التّكثيف والاقتصاد اللّغوي والقول المختلف التي اعتمدتهَا. والأجدى كان هو ممارسة شيء من العنف التّقشفيّ، أليستْ الكتابة نوعاً من العنف الجميل تمارسه اللّغة تجاه نفسها كانتقام من المتواضع عليه في أعرافها القارّة؟.

أوس أحمد أسعد