تحقيقاتصحيفة البعث

الدراسات تثبت والواقع يؤكد ماهو ليس بجديد..؟!! انحسار الطبقة الوسطى في المجتمع السوري.. ملامح رمادية تنتظر الاستدراك

 

“يبدو أن عصر الطبقات البرجوازية والرأسمالية عاد دون أن نشعر”، هذا التعليق الذي نشرته إحدى صفحات التواصل الاجتماعي للتعبير عن خبر حفل التخرج الذي أقيم في شيراتون معرة صيدنايا بتكلفة مئة مليون ليرة سورية للطلبة الذين تخرجوا من إحدى الجامعات السورية الخاصة، وتخلل الحفل توزيع ليرات ذهبية على الحضور، ليكون هذا الخبر محط أنظار الطبقة الأخرى من مجتمعنا الذي على ما يبدو انقسم دون أن نشعر إلى طبقتين اثنتين: طبقة أغنياء، وطبقة فقراء، بينما خطت الطبقة المتوسطة خطوات للخلف لتقف بمحاذاة الطبقة الفقيرة، ولم يكن هذا الخبر الفريد من نوعه خلال سنوات الأزمة، بل لطالما سمعنا عن أعراس وحفلات ونشاطات غير مبرر لها وغير مقبولة في ظل سنوات حرب أثقلت أغلب المواطنين، الأمر الذي يدفع للتساؤل: من أين وجدت هذه الطبقة المخملية؟ ومن أين لها أن تدفع مبالغ خيالية على مظاهر “استعراضية بريستيجية” في ظروف غير طبيعية، وفي وقت كان الأجدر بهذه الشرائح أن تقف إلى جانب البلد والمواطنين بدلاً من أن تحدث هذا الشرخ الكبير بينها وبينهم.

“بريستيج” معين

وإذا بحثنا في وسطنا المحيط نجد أن هذه الشريحة من الناس موجودة وبشكل لا يستهان به، وتحاول الطبقة الفقيرة مجاراتها دون أن تشعر، فأغلب موظفي القطاع العام، وعلى لسانهم: لا مورد لهم سوى الراتب الوظيفي، يصرّون على تسجيل أبنائهم بمدارس خاصة، ليدفعوا أقساطاً تصل إلى نصف مليون ليرة في العام للطفل الواحد، وعلى الرغم من سوء الوضع المعيشي لهم، إلا أن اللهاث خلف الطبقة الغنية، ومحاولة تقليدها، يمنعهم من تسجيل أبنائهم في مدارس حكومية، ليستمر الأمر معهم في المرحلة الجامعية، وليواظبوا على دفع أقساط مضاعفة في هذه المرحلة، على الرغم من أن الكثير من الأبناء استطاعوا الحصول على علامات في المرحلة الثانوية تؤهلهم للتسجيل في فروع علمية وأدبية عالية، لكن الحفاظ على وتيرة “البريستيج” يدفع الأهالي للاستمرار في السياق نفسه، ما يدفع للتساؤل عن جدوى بقاء الأهل في وضع معيشي صعب كي يدرس الأبناء في مدارس وجامعات خاصة، وهل يعقل أن راتب الموظف يسمح بتسجيل الأبناء في مدارس خاصة، أم أن الأزمة خلقت موارد مخفية استطاع من خلالها الكثيرون الانتقال من حال لحال، ما جعل الطبقة الوسطى التي كانت تمثّل الشريحة الأكبر في مجتمعنا تختفي بشكل سلبي.

دراسة

في دراسة نشرها مؤخراً مركز دمشق للدراسات والأبحاث (مداد)، تناول فيها الدكتور كريم أبو حلاوة الوضع الراهن للطبقة الوسطى في سورية، حيث أشار إلى أن هذه الطبقة تمثّل صمام أمان، وعامل استقرار في المجتمعات نظراً لدورها في ديناميات الحراك الاجتماعي، وقدرتها على تخفيف الصراعات الطبقية الحادة بين الفقراء والأغنياء، وأكد أبو حلاوة في دراسته انتقال فئات واسعة من أبناء الطبقة الوسطى إلى الفئات المهمشة والفقيرة، أو المهددة بالفقر، بعد أن كانت الطبقة الوسطى في سورية تشكّل نحو 60% من السكان قبل عام 2011، وأصبحت تشكّل نحو 15% من السكان في عام 2016 وفقاً لمعظم التقديرات، مع ملاحظة أن معظم الشرائح المُفْقَرة من الطبقة الوسطى في سورية بسبب الأزمة، واستناداً إلى مقياس فقر القدرات، فقيرة في دخلها، لكنها مازالت تملك الكثير من القدرات والمهارات والمزايا التعليمية، أي أن فقرها ليس عميقاً، وتحتاج إلى توسيع فرص النمو الاقتصادي كي تستعيد عافيتها، ورأى أبو حلاوة أن شرائح واسعة من الطبقة الوسطى في سورية تواجه قلق الهبوط إلى الطبقة الفقيرة بسبب ما أصاب مصادر دخلها من مخاطر وأضرار، وتبيّن المعطيات أن غالبية موجات اللجوء والهجرة إلى أوروبا بشكل خاص كانت من فئة الشباب والخريجين والحاصلين على تعليم جامعي عال، ومن ذوي الكفاءات، الأمر الذي شكّل نزيفاً بشرياً وتنموياً حاداً، وخلصت الدراسة إلى أن الطبقة الوسطى في سورية تبقى المرشّح الأبرز للمشاركة بفاعلية في عملية إعادة البناء والإعمار.

تقرحات كبيرة

كانت سورية تسعى للتطور الاقتصادي قبل سنوات الحرب، وتسعى للاهتمام بالطبقة الوسطى، وهي الشريحة الناخبة لكل نواحي الحياة الاقتصادية، والاجتماعية، برأي محمد كوسا “خبير اقتصادي”، كما كانت تسعى لنقل أكبر عدد من شرائح الفقراء إلى الطبقة الوسطى، فهذه الطبقة هي من تحدد مصير البلدان من ناحية النمو الاقتصادي، والاجتماعي، لذا كان الاستهداف الرئيسي في الأزمة إلغاء هذه الطبقة التي باتت ضعيفة خلال سنوات الحرب، فاستنزاف الاقتصاد السوري أدى إلى إلغاء النشاط الاقتصادي للطبقة الوسطى، وبالتالي أصبحت هذه الطبقة أقرب إلى طبقة الفقراء، لتزداد نسبة الفقراء في مجتمعنا، وهنا استفاد الأثرياء من هذه الناحية، ولعبوا لعبة الاحتكار، ولعبة الإتجار بظروف الحرب ومؤثراتها، ليبنوا ثروات هائلة أضيفت إلى ثرواتهم، فظروف الحرب، وغياب تطبيق القانون بشكل أفضل، أدى لتحرر الطبقة الفاسدة، وظهور تقرحات كبيرة على وقع الحرب، كما وجد كوسا أن غياب الضوابط الجمركية، ووجود مناطق ساخنة، أتاح لبعض الفئات خلق ثروات من خلال السرقة، والتعدي على الممتلكات، والإتجار بالأشخاص، والسلاح، والممنوعات، وقامت فيما بعد بغسيل أموالها، أما الطبقة الوسطى فقد أجبرتها على صرف مدخراتها بشكل كامل، ما أدى لانحسار هذه الطبقة بشكل كبير، لتصل نسبتهم إلى حوالي 20%، أما الفقراء فنسبتهم اليوم تفوق60٪، وما تبقى يندرج تحت طبقة الأثرياء، لذا من الضروري حماية الطبقة الوسطى من التآكل، وهذا يتطلب الوعي الحكومي بأهمية هذه الطبقة، وإدراك حجم الفراغ، والفجوة التي تتركها تلك الطبقة، وأكد كوسا على أهمية زيادة الأجور لهذه الشريحة، والتعامل معها بأهمية دون إهمال لتحسين مستوى معيشتها، وكذلك العمل على تحسين وتطوير كل ما تستخدمه تلك الطبقة من مرافق وخدمات عامة لتنعكس بدورها على استقرار تلك الطبقة وثباتها، لأنها صمام أمان أي مجتمع، وكلما توسعت هذه الطبقة تحقق الاستقرار في المجتمع، وقادت المجتمع للتحديث والتطوير.

ضرورة التكامل

ولأن الطبقة الوسطى تتكون من الموظفين، والمثقفين، وحملة الشهادات، والحرفيين ذوي الخبرة والكفاءة، فقد وجد الدكتور عابد فضلية، “محلل اقتصادي”، أن معظم الأنشطة الاقتصادية تديرها هذه الطبقة، فمن الطبيعي أن تكون الطبقة الأوسع في المجتمع، ولم ينكر فضلية أهمية وجود الطبقة الغنية كونها تشكّل الموئل الأساسي لهذه الأنشطة التي تديرها الطبقة الوسطى، كذلك الأمر بالنسبة لطبقة الأدنى من الوسطى الذين دون جهودهم لا يمكن تشغيل الطبقة الوسطى، وبالتالي فإن العلاقة مترابطة بين الطبقة الوسطى التي تشكّل حلقة وصل بين الطبقات الغنية والفقيرة، فالمجتمع متكامل، وبحاجة ضرورية لوجود جميع الطبقات التي تراكمت عبر التاريخ الزمني، وهي التي تحقق توازن المجتمع عند تركيبة معينة، وأي خلل في هذه التركيبة الناتجة عبر مراحل الزمن، وأي تغيير في نسب النسيج الاجتماعي يعتبر خللاً، فالطبقة الوسطى هي التي تنتج، وفي حال انحسرت هذه الطبقة تبقى الطبقة الغنية غير معنية، والفقيرة غير قادرة، وهنا تكمن الخطورة، واعتبر فضلية عدم إمكانية إعادة تركيبة المجتمع بقرارات أو بسياسات، بل بالدعم من خلال دعم الأنشطة، خاصة في مرحلة إعادة الإعمار، فمع تطور الأنشطة تتطور هذه الطبقة، وتعود لتأخذ مكانها الطبيعي في المجتمع، ومن الضروري توسيع قاعدة الطبقة الوسطى من الناحية الاقتصادية في الإدارة السليمة بما يؤدي إلى منعكسات إيجابية توفر المناخ الملائم لتوسيع قاعدة الطبقة، بحيث تركز على تحقيق قيم مضافة عالية، وتنظيم سوق عمل، واستحداث فرص العمل اللائقة للعاملين والعاطلين عن العمل، كما أن إعادة الدور للمؤسسات لقيادة العملية الاقتصادية من خلال تفعيل دور كل القطاعات الاقتصادية، وعدم استثناء أية إمكانية اقتصادية، خاصة أو عامة، وبكفاءات مهنية نظيفة، كفيلة بانطلاقة صحيحة نحو إعادة الطبقة الوسطى إلى تركيبة المجتمع قبل انهيارها بشكل تام، لأن انهيار هذه الطبقة هو انهيار للبلد ككل، إذ دائماً تقاس المجتمعات في تطورها ونموها بمساحة الطبقة الوسطى فيها.

ميس بركات