ثقافةصحيفة البعث

البيان رقم واحد

أدمنت أمي قراءة الكتب والروايات ونقلت إدمانها هذا لنا نحن أبناءها جميعاً، ولأنها كذلك كان من روتين حياتنا المرور بالمكتبة الوحيدة في القرية بشكل دوري للحصول على لائحة تختارها بدقة من الكتب والمجلات والقصص المصورة، ونتناوب على قراءتها بترتيب يفرضه نظام العقاب والثواب ومشاكسات الصغار، ويوماً ما كان لحرب تشرين التحريرية عام 1973 فضيلةَ إضافةٍ جديدة لنظام حياتنا يتعلق بالصحف والجرائد اليومية، إذ بات تلمّس البطولة الموثقة بالصورة على الورق ضرورة ومتعة كنزتها أمي طويلاً وانتقلت كإرث مازال بعضاً من أعدادها محفوظاً في مغلفات الأوراق الهامة.

ولأنها حرب بطعم الانتصارات كان لا بد لأحداثها وتفاصيلها التي قدر لي أن أشهدها أن تستوطن ذاكرتي وذاكرة الكثير من أبناء جيلي ستبقى صورتها بنقاء ماء السماء ولصوتها رنين الذهب. ستحتفظ بكل الزهو الذي أشعلته في الروح حتى بعد مرور سنوات تَغزُّ السير نحو نصف قرن من الزمن.

كل تفصيل مهما كان صغيراً وكل صوت سيبقى عالقاً في أذهان أطفال تبدل روتين حياتهم حينها ونقلتهم المجريات اليومية إلى النضج بين ليلة وضحاها فباتت لعبة الحرب لعبتهم، ولغة الجنود وعبارات المعارك هي اللغة التي يتبادلونها و”صاروخ سام” ترنيمة تتردد في مسامراتهم، وصارت مشاهدة الأفلام وسماع الأناشيد الوطنية والبيانات الحربية ومتابعة الأخبار من ضمن يومياتنا، إن لم يفرضها الفضول حتّمتْها خيارات الكبار، ذلك هو الطبيعي في ظل حرب شكلت بداية تاريخ جديد في حياة كل سوري، ومسيرة وطن صنع الانتصار الذي طال انتظاره بعد سنوات من الخيبة والهزيمة.

وللتفاصيل الصغيرة وقعها المختلف حين ينقلها الراديو الذي يقع في كل بيت ومقهى يملأ الشوارع والأجواء بأخبار البطولات والانتصارات، وينشر بهجتها في كل مكان، بينما الصدى يردد كلمات رافقتها “خطة قدمكن ع الأرض هدارة” بصوت فيروز تنطلق مع أثير كل بيت وشارع جنباً إلى جنب مع هدير الطائرات وصوت المدافع وهتافاتنا نحن الصغار وقد غادرنا الخوف إذ نعرف من هو العدو ونؤمن بالبطولة التي شهدناها بالعين وباتت محاكاتها تسليتنا المفضلة وثقافة نتشربها ونورثها، يملأ ضجيجها الأجواء بهجة وفرحاً بالنصر، تداعيات  يتردد منها حتى اللحظة في الأذن صوت مذيع اخترق سكينة الظهيرة في يوم يحمل من بين الأيام تاريخ السادس من تشرين الأول عام 1973، ومازلت حتى اليوم أتوق لمعرفة شعور صاحبه  عبد الكريم إسماعيل وهو يقرأ على الملأ في لحظة تاريخية من حياة سورية والسوريين، ويتلو عبارة هزت قلوب الملايين وحملت إليهم بشائر العز بعد زمن من الانكسارات: هنا إذاعة دمشق، البيان رقم واحد.

بشرى الحكيم