دراساتصحيفة البعث

حرب تشرين وصراع الإرادات

عبد الرحمن غنيم

كاتب وباحث من فلسطين

لم يكن البلاغ الأول الصادر ظهيرة يوم 6 تشرين الأول 1973 مفاجئاً بالنسبة لي، فقد كنت أعلم مسبقاً أن التهيئة لهذه الحرب كانت تجري على قدم وساق، وأنها بدأت في أعقاب نكسة حزيران 1967 مباشرة، وهذا هو السر الكامن وراء دخول الرئيس جمال عبد الناصر إلى جانب قيادة البعث في سورية على خط الدعم الواسع، ليس فقط للمقاومة الفلسطينية، ولكن أيضاً للمساهمة المصرية والسورية في حرب الاستنزاف إلى جانب المقاومة الفلسطينية، فحرب الاستنزاف بمختلف أشكالها وأدواتها، والقوات التي أسهمت فيها، كانت ترمي إلى أمرين: أولهما التعبير الحي عن إرادة الصمود والمقاومة، وتطوير أدواتها في مواجهة العدو، وثانيهما مشاغلة العدو بحرب الاستنزاف، بينما تجري عملية بناء القدرات القتالية العربية اللازمة تمهيداً للمجابهة الكبيرة اللاحقة.

كانت المشكلة التي أبرزتها حرب حزيران في الواقع أنها جاءت مصداقاً لقوله تعالى عن بني “إسرائيل” في سورة الإسراء: “وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً”، وهكذا وجدنا العدو يحشد لحرب حزيران من القوات ما يفوق من ناحيتي العدد والعديد مجموع ما تملكه الجيوش العربية مجتمعة، ولكن نقطة الضعف في هذا الحشد تمثّلت في الواقع في كونه يصلح للحرب السريعة الخاطفة، بحكم اعتماده على التعبئة العامة من جهة، وعلى استقدام متطوعين صهاينة من خارج فلسطين المحتلة من جهة ثانية، وعلى التفوق الجوي من جهة ثالثة، وعلى الدعم الأمريكي المباشر من جهة رابعة، فإذا طالت الحرب، وإذا جرى تحييد عنصر التفوق الجوي، انهار الاقتصاد عند العدو، وانهارت كل مقومات الحياة الاجتماعية، أي قوّضت ما تسمى عند العدو بالجبهة الداخلية، وفي مواجهة العرب لهذا الوضع كان لابد من استثمار عنصر القوة الأساسي المتمثّل في تفوق العرب العددي، ومن توسيع نطاق المجابهة مع تنويع أدواتها، ومن الاعتماد على الإيمان بالحق كعامل معنوي، وفوق هذا كله إيجاد القدرات القتالية التي تواجه آلة العدو الحربية، وخاصة مشكلة تفوقه في الجو، وكل هذه المعطيات تدخل عملياً في نطاق صراع الإرادات.

كانت إعادة بناء جبهة المواجهة العربية هي الهدف السريع والملح، وهذا يفترض بشكل منطقي أن تتبلور استراتيجية موحدة للمواجهة، وكان المنطق يقتضي العمل على خطين متوازيين: أولهما الاستمرار في مشاغلة العدو على جبهات القتال من خلال حرب الاستنزاف، وثانيهما بناء القدرات القتالية للجيوش النظامية العربية بما يجرّد العدو من نقاط قوته.

من الناحية النظرية يمكن القول بأن هذه الرؤية الاستراتيجية تبلورت لدى الرئيس جمال عبد الناصر منذ اللحظات الأولى التي أعقبت نكسة حزيران، والتي أعقبت أيضاً تلبيته لإرادة الجماهير الشعبية في مصر بالتراجع عن قراره بالتنحي في أعقاب النكسة مباشرة، ومن الناحية العملية يمكن القول بأن القيادة المشتركة لجبهة المواجهة برئاسة الفريق محمد فوزي كان وجودها يفترض تحقيق الانسجام والتكامل بين جميع أقطار جبهة المواجهة، وكانت حرب الاستنزاف قد انطلقت منذ وقت مبكر، وكان من مظاهرها البارزة معركة “رأس العش” شرقي قناة السويس، ثم معركة “الكرامة” شرقي نهر الأردن.

هل يعني ذلك أن الإرادات في جبهة المواجهة كانت متحدة؟.

للوهلة الأولى كان يبدو أن هذه الإرادات متحدة، أو يفترض أن تتحد، لكن الأمور على الصعيد العملي كانت تتضمن تعدداً للتصورات، بل ووصلت أحياناً إلى صراع الإرادات.

في دمشق، كانت هناك رؤيتان للنهج المتوجب اتباعه: واحدة ترى الاعتماد كلياً على المقاومة والعمل الفدائي، وقد عززت وجهة نظرها بدورات الممارسة التي التحق بها الرفاق البعثيون، بالالتحاق بقواعد المقاومة، وتنفيذ عمليات للمقاومة، فأسهموا بذلك في حرب الاستنزاف، وبالمقابل كان الرفيق حافظ الأسد من موقعه في القيادة وكوزير للدفاع يتبنى وجهة النظر القائلة بضرورة تطوير الجيش والمقاومة معاً.

وفي لبنان كان هناك من لايزال يأخذ بالمنطق القائل بأن قوة لبنان في ضعفه، ويحاول إعاقة تطور وجود المقاومة الفلسطينية في لبنان، لكن هذه المقاومة أخذت مواقعها تتعاظم، أما في الأردن حيث تواجد العمل الفدائي ونما بشكل واسع، فقد اتجه النظام نحو الاصطدام بالمقاومة، وصولاً إلى مجازر أيلول عام 1970، وكان العراق آنذاك يحتفظ بقوات له تواجدت في الأردن، لكن سلوكه كان سلبياً حتى إزاء أحداث أيلول، وازداد سلبية بسحب هذه القوات من الأردن، وكأنما هو ينفض يده من جبهة المواجهة.

كان يوم 28 أيلول 1970 يوماً مأساوياً لجبهة المواجهة بكل المقاييس، فهذا اليوم الذي يذكرنا بواقعة الانفصال، شهد حدثين قاسيين: فالقمة العربية التي عقدت في القاهرة بغياب سورية اتخذت قراراً فحواه إخراج المقاومة الفلسطينية من الأردن، بعد أن قبل ياسر عرفات بصيغة هذا القرار، ما شكّل صدمة حقيقية للرئيس عبد الناصر الذي كان يعنيه استمرار حرب الاستنزاف على جميع الجبهات، وقد توفي الرئيس عبد الناصر في ذلك اليوم عينه بعد توديع ضيوفه من الملوك والرؤساء في مطار القاهرة، وهكذا كانت الضربة مزدوجة، وجاء تولي أنور السادات للسلطة ليزيد من الغموض حول المستقبل والمصير.

إن هذه التطورات التي وقعت في مصر والأردن هي التي دفعت الأمور في دمشق باتجاه الحركة التصحيحية، حيث كان لابد من تثبيت النهج الذي عبّر عن نفسه لاحقاً في حرب تشرين، فخيار المقاومة تعرّض عام 1970 لطعنة قاسية، ويكفي أن ندرك بأن هذه الطعنة حرمت المقاومة من مشاغلة العدو واستنزافه على جبهة يصل طولها إلى حوالي 1000 كم على امتداد الحدود الأردنية مع فلسطين المحتلة، كما أن إخراج المقاومة من الأردن كان لابد أن يؤثر على قدرتها في أن تتواصل مع جماهيرها داخل الوطن المحتل، ومهما كان حكمنا على حجم وفاعلية المقاومة في ذلك الحين، إلا أن مشاغلتها للعدو على جبهة بهذا الطول والعمق أيضاً كانت شيئاً مهماً للغاية في حسابات الصراع، وفقدان تلك الجبهة كان يشكّل خسارة كبيرة لجبهة المواجهة.

لعل الشيء الإيجابي الوحيد الذي بقي قائماً بعد وفاة الرئيس عبد الناصر تمثّل في بقاء القيادة الموحدة لدول المواجهة، والتزام سورية ومصر معاً بهذه القيادة، ومن ثم بالخطة المتفق عليها في زمن عبد الناصر، أي أن الخطة الأساسية للإعداد لحرب تشرين قد استمرت في الوجود، وهو التزام كان مضمونه العملي خافياً تماماً بالنسبة للجماهير العربية التي ترى التطورات السلبية الحاصلة دون أن تلحظ العوامل الإيجابية التي تجري متابعتها بصمت.

المواقف وصراع الإرادات

ولكي نفهم الموقف بالنسبة لصراع الإرادات في ذلك الحين، من الملائم أن نتوقف عند الملامح المعلن منها والخفي.

من بين ما أنجزته الحركة التصحيحية عام 1970 استقطاب القوى الوطنية والتقدمية السورية، وتشكيل الجبهة الوطنية التقدمية، وهذا التطور أدى إلى عودة اللاجئين السياسيين من القاهرة إلى دمشق، ونحن نعرف بالمقابل أن السادات ما إن تولى السلطة حتى شن حملته على القادة الذين كانوا مع عبد الناصر بدعوى أنهم مراكز قوى، أو أنهم يحضرون للانقلاب عليه، والواقع أنه هو من انقلب عليهم، ومثل هذه التطورات، مقترنة مع تبنيه لنهج الانفتاح على الغرب في المجال الاقتصادي، أثارت الكثير من الشكوك في نهجه عند الكثير من المثقفين في مصر، وهذه الأجواء جعلت آخر شيء يمكن أن يتوقعه الناس أن تكون هناك في مصر خطة يجري الإعداد لتنفيذها بالفعل مثل تلك المتمثّلة بحرب تشرين.

وإذا كان هذا هو الوضع في مصر بعد رحيل عبد الناصر، فإن الوضع في العراق كان في تلك الفترة أكثر غموضاً، وقد قدّر لي أن أقوم عام 1972 بزيارتي اليتيمة إلى بغداد، ووجدت من الرفاق القياديين في بغداد من يحمّلني رسالة شفوية إلى قيادة الحزب في سورية يعبّر فيها عن الرغبة في استعادة وحدة الحزب، وتحقيق وحدة سورية والعراق، كما أن رسالة مماثلة طلب من الأخ خالد الفاهوم رئيس المجلس الوطني الفلسطيني أن يحملها إلى القيادة في دمشق، وقد وصلت الرسالة في الحالتين، ولكن ما حدث في بغداد بعد ذلك لم يتضمن فقط تصفية أحزاب وقوى عراقية تلاقينا مع من يتحدثون باسمها في بغداد أثناء وجودنا آنذاك، ولكن أيضاً تعرّض الرفاق الذين سعوا إلى وحدة الحزب للتصفية بقسوة، وبصياغة أخرى للموقف فإنه بينما كانت القيادة في سورية تعمل على جمع القوى الوطنية والتقدمية واستقطابها في إطار التحضير سواء لتطوير العمل السياسي في القطر، أو لمواجهة أعباء الحرب التي يتم الإعداد لها بوحدة وطنية شاملة، فقد عملت السلطة في العراق على نحو معاكس تماماً في علاقتها مع القوى الأخرى، واستبعدت هدف وحدة الحزب أو وحدة القطرين، وانقضت على الداعين له من الرفاق في العراق.

أما في القاهرة، فأذكر أنني ذهبت إلى هناك في زيارة أواسط عام 1973، أي قبل حرب تشرين بشهور قليلة، ومن بين من التقيتهم في ذلك الحين أستاذي د. حامد ربيع، والرفيق الشاعر صلاح عبد الصبور، كان الاثنان في قمة السخط على السادات، وفي قمة اليأس من السياسات التي يطبقها، وكان السادات قد اتخذ للتو قراراً بدا غير ذي معنى، ومن الصعب فهم دلالته، إذ قرر فجأة إعادة عدد من الصحفيين إلى عملهم بعد أن كان قد جمّدهم في وقت سابق، وبالنسبة لي كان بالوسع الربط بين هذا القرار وبين اقتراب ساعة الصفر لحرب تشرين، وأذكر في ذلك الحين أنه حين قلت للدكتور ربيع بعد حملته العنيفة على السادات بأن وراء الأكمة ما وراءها، وأن حرب العبور قادمة، كان جوابه الفوري متمثّلاً بالعبارة التالية: “يا خبر! ده يعملها!”، وهذا التعبير بالنسبة لعالم السياسة العربي مفهوم، فقد كان يتحدث عن السادات الذي يدير الأمور بعقلية الفلاح منتقداً، ولكن ما إن سمع كلمة “العبور” حتى التقطها ليقول: حقاً، إن من يدير سياسة البلد بعقلية الفلاح يمكن أن يفعلها، وأن يذهب فجأة إلى الحرب، سواء جاء ذلك نتيجة لعقلية الفلاح، أو لأن الجيش المصري كان ملتزماً مع الجيش السوري، ومنذ كان الرئيس عبد الناصر على رأس القيادة في مصر بخطة مشتركة للحرب يتم فيها الرد على نكسة حزيران، ولم يكن بوسع السادات أن يقنع قادة الجيش المصري بالتخلي عن هذا الالتزام، أو أن مرض السادات “السيكوباتي” تساوق مع خطة أو خطوة العبور، ولكنه لم يستطع متابعة التحدي بعد أن تحقق العبور، فكان الخلاف الذي وقع بينه وبين بعض قادة الجيش، ومنهم سعد الدين الشاذلي كما هو معروف، فما حدث يعني أن مشكلة صراع الإرادات قبل حرب تشرين لم تكن لتخلو من التعقيد.

ومما يدلل على صحة ما وصلنا إليه، أن هناك معلومة باتت معروفة منذ زمن طويل، وهي أن حرب تشرين كان مخططاً لها أن تقع قبل تشرين بأشهر، ولكن صراع الإرادات تسبب في إرجائها إلى موعد لاحق، كيف؟.

هناك أولاً المعلومة التي تقول بأن الملك حسين، ويفترض أنه طرف في جبهة المواجهة يجب إعلامه بالحرب إن لم نقل بأنه يجب أن يشرك الجيش الأردني في تلك الحرب، ما إن علم بقرب الموعد الأول للحرب حتى اتصل مع الصهاينة ليبلغهم بقرار الحرب وموعدها، وهذا التصرف أدى إلى جعل الصهاينة حين لم يجر شن الحرب في الموعد الذي أعلمهم به الملك يزدادون قناعة بأن قيام العرب بشن الحرب هي فرضية مستبعدة، ولا تستحق انشغالهم بها، وكان هذا أحد الأسباب التي جعلتهم يتهمون بالتقصير “المحدال” بعد أن وقعت الحرب فعلاً وفوجئوا بها.

ما حدث بعد ذلك أن القيادة المشتركة المصرية– السورية للحرب حين حددت ساعة الصفر الجديدة لحرب تشرين لم تبلغ أي طرف آخر بموعد الحرب، ولم يكن السبب في ذلك فقط هو التصرف المنسوب إلى الملك حسين، ولكن كانت هناك مشكلة أخرى هي عملياً التي أدت إلى تأجيل الموعد الأول للحرب، وهذه المشكلة أن القيادة الفلسطينية، وتحديداً قيادة ياسر عرفات، أعلمت بدورها بأن الحرب آتية ويجب التهيؤ لاستحقاقاتها من قبل فصائل المقاومة، ولكن ما حدث على الأرض عملياً أنه بدلاً من استنفار قوى المقاومة لتكون جاهزة لأداء دورها خلال الحرب بالتغلغل خلف خطوط العدو وإرباك خطوط مواصلاته، وجد من يفجر أزمة مفتعلة في بيروت في نيسان عام 1973، فشكّلت تلك الأزمة المفتعلة جملة اعتراضية تقف في طريق قرار الحرب، وتفرض تأجيلها أولاً، وعدم معرفة أحد بساعة الصفر غير القيادة المشتركة المصرية– السورية، ومن شاء أن يسهم في أداء دوره المنطقي خلال الحرب فليفعل، ولكن بعد أن تكون الحرب قد وقعت بالفعل، ولعل هذا ما يفسر الدور المتواضع الذي قامت به فصائل المقاومة انطلاقاً من لبنان خلال حرب تشرين، أو خلال حرب الجولان وجبل الشيخ التي استمرت بعد حرب تشرين لحوالي ستة أشهر.

والآن قد يطرح السؤال: وماذا عن الأقطار العربية الأخرى غير أقطار جبهة المواجهة؟.

دعونا نعترف بأنه خلال حرب تشرين، بدا التضامن العربي في أحسن حالاته، فكان بوسعنا أن نرى إسهاماً مباشراً من بعض الأقطار العربية في دعم جبهتي القتال، سواء اتخذ هذا الإسهام شكل إرسال قوات للمساهمة في القتال، أو اتخذ شكل التوقف عن تصدير النفط، وبغض النظر عن أحجام هذا الدعم ومدى جديته بالنسبة لكل قطر ساهم فيه، فإن الصورة العامة المتحققة كانت مختلفة بالقياس إلى الظروف التي سبقت تلك الحرب، أو التي أعقبتها بعد ذلك، وكان يمكن لهذه الحرب أن تحقق إنجازات أفضل مما حققت لو لم يمض السادات في طريق كان مفاجئاً للجميع ابتداء من التقاعس عن مواصلة القتال، وتطوير هجوم القوات المصرية في عمق سيناء، وذهابه إلى مفاوضات الكيلو 101، وصولاً إلى مفاجأته المتعلقة بالذهاب إلى الكنيست وإبرام اتفاقيات “كامب دافيد”، وإخراج مصر من الصراع، وفي غضون ذلك فإن الإرادات التي جمعتها ساعات العز في تاريخ الأمة المعاصر أخذت تتبعثر من جديد، وما لبثت أن غرقت في صراعات جانبية، ومازلنا نعاني من هذه الصراعات.

وإذا كان لنا أن نأخذ أهم مظهرين من مظاهر صراع الإرادات عقب الحرب مباشرة، بالإضافة إلى “كوربة” السادات المباغتة، مبعداً الجيش المصري من المواجهة، ما يعني إبعاد ركن أساسي محوري فيها، بل لنقل الركن الأساسي المحوري، فإن أكثر ما يعنينا عملياً يتمثّل في سلوك طرفين هما: النظام العراقي، وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، وهذان الطرفان يفترض أن يكونا بشكل طبيعي من أركان جبهة المواجهة، وليسا مجرد دعم استثنائي يراهن عليه.

إن النظام العراقي الذي أرسل خلال الحرب قوة أسهمت في القتال على جبهة الجولان بالفعل سارع إلى سحب هذه القوة بعد صدور قرار مجلس الأمن بوقف إطلاق النار، رغم أن الحرب لم تكن قد توقفت عملياً، ورغم أن الحاجة إلى بقاء هذه القوات كانت قائمة، خاصة بعد أن انحرف السادات بمسار الحرب، وفي تلك الفترة حضر إلى دمشق اثنان من رؤساء البلديات في الضفة الغربية معبّرين عن الحاجة الفلسطينية الماسة إلى تدعيم جبهة المواجهة، وعودة القوات العراقية إلى الجبهة، وقد توجها إلى بغداد والتقيا بصدام حسين، وكان آنذاك يشغل منصب نائب الرئيس، وطرحا عليه هذا المطلب باسم الأهل في الضفة الغربية، لكن جوابه الذي نقلاه إلى دمشق في طريق عودتهما أن عودة القوات العراقية إلى الجبهة غير واردة على الإطلاق، وأن القيادة العراقية بصدد حل الجيش العراقي وإعادة تشكيله، وأن هذه العملية تتطلب فترة زمنية قد تستمر حتى نهاية عقد السبعينيات، وهكذا نفض يده، والحقيقة أنه لم يقف عند حدود نفض اليد بل ذهب إلى أفق أسوأ بانخراطه في افتعال الأزمات في لبنان وسورية، وهنا تبدو عوامل الحسد والغيرة هي المتحكمة بالقرار السياسي أكثر من أي شيء آخر.

أما على المسار الفلسطيني فإن المشهد بعد الحرب مباشرة لم يكن أقل مدعاة للاستغراب، فبعد صدور قرار وقف إطلاق النار بأيام قليلة كان لنا في الأمانة العامة لاتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين اجتماع في دمشق لمناقشة الموقف بعد الحرب، وقد التقينا في يومي 27 و 28 تشرين الأول مع الرئيس حافظ الأسد، ثم مع الرئيس ياسر عرفات، وكانت هناك أخبار صحفية جرى تسريبها في بيروت تزعم أن السوفييت طرحوا على القيادة الفلسطينية مشروعاً للتسوية السياسية للقضية الفلسطينية، وفي لقائنا مع الرئيس الأسد، وبعد أن لخص لنا وبكل موضوعية وصدق مسار حرب تشرين، انتقل الحديث إلى الموقف السياسي وما تسربه الصحف، فقال إنه من المستحيل أن يكون السوفييت قد طرحوا مشروعاً للتسوية على قيادة منظمة التحرير، لأنهم لو كانوا بصدد طرح أي مشروع لأبلغوا دمشق بذلك، لكن شيئاً من ذلك لم يحصل، وفي اليوم التالي كان لقاؤنا مع الرئيس ياسر عرفات في مكتب 23 بدمشق، وخلال اللقاء توجه ياسر عرفات بحديثه إليّ وقال: معروض علينا دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وبينهما طريق للتواصل، فقلت له: يا أخ أبا عمار، إن عرضاً من هذا النوع يحتاج إلى خوض عدة حروب على غرار حرب تشرين وأشد.

لم يشأ ياسر عرفات في ذلك اللقاء أن يكشف عن الجهة التي عرضت عليه هذا الحل، ولكن من الواضح أن هذه الجهة التي “عشمته بالحلق”، “الدولة الفلسطينية” فثقب من أجل ذلك أذنيه، هي واشنطن وليس موسكو، ولكن لماذا فعلت ذلك، ونحن نفترض أنها فعلت، لأنه لا يعقل أن يخترع عرفات القصة وأن يصدقها؟.

لقد فعلت ذلك لأن واشنطن تدرك أن حرب تشرين يمكن أن تقود إلى تصعيد المقاومة الفلسطينية، وأن تصعيد المقاومة الفلسطينية، بينما “إسرائيل” في حالة اشتباك مع سورية وكذلك مع مصر، حيث كان التداخل بين القوات الصهيونية والمصرية، وإمكانية اشتعال القتال بينهما في أية لحظة، وارداً، من شأنه أن يربك الصهاينة، فكان لابد من مشاغلة المقاومة الفلسطينية عن فكرة تصعيد عملياتها ضمن وضع كان مواتياً تماماً لهذا التصعيد، وقد رأينا بالفعل كيف أن المقاومة الفلسطينية، ورغم تمسك عرفات بالإغواء الذي طرح عليه، نفذت خلال عام 1974 سلسلة من العمليات النوعية في داخل فلسطين المحتلة، وكبدت العدو الصهيوني الكثير من الخسائر، وهذا التطور النوعي كان متواكباً مع حرب الجولان وجبل الشيخ التي خاضها الجيش السوري بمواجهة العدو، واستمرت قرابة ستة أشهر، وكانت بمثابة حرب استنزاف أعقبت حرب تشرين لتشكّل في حد ذاتها حرباً إضافية.

إن محاولة إبعاد المقاومة الفلسطينية عن متابعة عملياتها ضد العدو الصهيوني هي التي تفسر إثارة الحرب الأهلية في لبنان بدءاً من نيسان 1975، وعلينا أن نفكر ملياً في موقع هذه الأحداث في صراع الإرادات، وكيف لعب الأمريكي دوره في تسعير حرب الإرادات على نحو يشغل فيه العرب بصراعات محلية وجانبية لتمكين العدو الصهيوني من استرداد زمام المبادرة بعد أن أفلت منه هذا الزمام خلال حرب تشرين!.