ثقافةصحيفة البعث

“كلام يعنيني”.. أقرب من سماء أبعد من زرقة

 

تعتبر تجربة الشاعر عصام التكروري تجربة مهمّة بين التجارب الشعرية السورية التي نفضت الغبار عن أنين قصائدها المخبأة بشغاف القلب، والمشغولة بريف الروح، وقدمت لنا في مجموعات شعرية، قرأناها بكثير من الحب، قصيدة التكروري، برزت فيها القدرة العالية على إبداع صور شعرية متميزة ومكثفة على امتداد مساحة بوحه الشعري الصادق.
ثمة مساحات شعرية تميزت بانزياحها، وبذلك المخيال الشعري المنحاز للسهل الممتنع
“لاتلوموا الصدأ. فقط تذكروا عبارته الأخيرة: من هنا مرّت كل المعادن الوضيعة” – ص 9.
في “كلام يعنيني” الصادر عن دار التكوين نجح الشاعر التكروري بالعبور الموفق والآسر إلى قلب اللغة لتحريكها، وإضافة الكفيل الضامن بتحريك الذائقة، ورفدها باسم مشتغل ودينامي، فالأداة الشعرية هنا هي أداة طيعة ومتوارية في نفس الوقت، إن كانت القصيدة لا ترجو ضوابط ومخططات فإنها في وجهها الحقيقي وبعد ولادتها بشكلها الطبيعي، تخلق ذاك الإحساس الراقي بولادتها الشفافة، كما هي قصائد (كلام يعنيني) التي تعطي مفاتيحها لقارئها ولا تبقى غامضة لا تفك شيفرتها بل لنقل ضياعه. يقول:
“المشرفون على الغرق جميعا، يصرخون (النجدة)/ ويتوسلون طوق نجاة، أنا الغريق الوحيد الذي يصرخ “اللجة” / متوسلا أن تحصبيني بصخرة / تزن آلاف الشطآن لعلّي أرسو في قاعك حيا” ص26.
بدءا من عنوان المجموعة (كلام يعنيني) كعنوان مشتغل عليه بعناية فائقةـ والذي ناقض ماهو متعارف عليه لدى الكثير من القراء والنقاد، بما يعني أن العنوان عتبة دالة للولوج إلى عمق النص، وانه المفتاح الحقيقي للنص. هنا مع الشاعر عصام التكروري الأمر مختلف تماما من حيث عنوان المجموعة، نص (كلام يعنيني) بحد ذاته يعني مبدعه فقط، من حيث هو نتاج تجربة عاشها الشاعر في (باريس).
“وحدي بحزم قاتل ورقة مطر أخطفك إلى (مونمارتر) / وأطلق لأجلك أجراس كنيسة (القلب المقدس) معلنا للقديسين وللضالين، لباعة الصلبان وصور البورنو، لأنصاف الموهوبين من رسامين وشحاذين/ لطالبي اللجوء السياسي والمهاجرين غير الشرعيين / لهؤلاء جميعا أعلن أنّه لو قدر لباريس أن تكون امرأة لكانت أنت / كلاكما منحني أجنحة، وسرق مني الرغبة بالطيران” ص 84.
قصيدة الشاعر التكروري تتمتع بذاك الخيط المحاك بعناية فائقة، بذاك المس المخفي والظاهر عن المرأة كدال وطرف قوي في معادلة الحياة، طرف مرجح ومغر، ومع أن المرأة علامة فارقة وواضحة في سياق التعرف إليها واكتشافها في بعدها الميتافيزيقي، والكتابة عنها وفيها تحتاج إلى معرفة هذا الكائن الحساس والجارح في الوقت نفسه ومن داخله المغلق، إن عصام التكروري يعرف هذا المغيب في حسابات الآخر ويقيم العلاقة المثلى بين نصه وبين المرأة الكائن الجميل: “خمس سنوات، خمسة آلاف حصاة / وخمسة من رؤوس الأصابع باتت هاربة من وجه نافذتك (المنمش) / ليتني لم انتبه، أنّ سنة واحدة كانت تكفي/ ليطل وجهك على ألفة النارنج” ص 77.
يضاف ميزة وتيمة أخرى ومن ضمن اشتغالات،عصام الشعرية على نصه الشعري، ذاك المحاك شعريا من عباءة أيامه من المشهد اليومي عن الحرب وعن الحب وعن البلاد والذكريات الجارحة والجريحة:
“سنمضي عميقا في قشرة الوقت / نأخذ مالنا من شغب الأشجار في أعراس الربيع/ مالنا من سكينة البحيرات/ عند هبوب المغيب / سنمضي من وقت لا برتقال لنا في فجره/ ولا في غسقه سماق” ص 39.
سنكتشف ونحن نقرأ التكروري بكثير من الشغف أننا كثيرا ما نكون أمام قصيدة شعرية تحاكي النبض اليومي بكل تجلياته وانكساراته، وتلك الشمس التي لاتغيب:
“أنا الصقر الذي دوّخ الشباك المتمرسة / وأسقطه راع أعور بحجر طائش. أنا من أجمع البناؤون على كونه حجر الزاوية، ليشرعوا بتشييد صرح دائري. أنا السكير الذي خذلته الخمر على مرمى من كأس من هاوية البوح”. ص 93
قصيدة الشاعر عصام التكروري، بكل خصوصيتها من حيث روحها الأولى ومن حيث اشتغالها على لغة صافية وضمن هذه اللغة المشكلّة بتعب واجتهاد وحب لايخلوان من معرفة عميقة بها، قصائد (كلام يعنيني) سنظل نقرأها بكثير من الشغف، ومن الدهشة التي تحتاجها القصيدة الحديثة. عموما قصائده تحتاج لوقفات أكثر، نظرا لخصوصيتها وتفردها وإخلاصها لكل ما ينتمي للشعر.
“سأبقى الوحيد بشفاه حافية، ولعاب شحيح أحث ما استطعت القبل/ وراء شامات مرصودة للدهشة” ص 83.
أحمد عساف