الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

الأثمن.. هو الإنسان!

حسن حميد

لم يكن كتاب (الإلياذة) الإغريقي المدون قبل ثلاثة آلاف سنة كتاب أحداث أو حرب وتحالفات مقسومة إلى ضفتين، أبداً، وإنما كان كتاب المعاني الخالدة خلود الزمان، فهو اجتماعٌ لعوالم ثلاثة هي العلوي/السماء، والأرضي/حياة الناس، والسفلي/ عالم المقابر، بيت المآلات الأخيرة، وتجول في هذه العوالم الثلاثة الأسئلة الموجعة التي لا إجابات عنها إلا تخميناً أو ظناً. صحيح أن الكتاب يروي أحداث الحرب الطروادية، ويواقف حراك الجنود والأبطال، ولكنه يدخل إلى أعماق الذات البشرية ليجلو ما فيها من خير وشر، وسفاهة وحكمة، وقداسة ونجاسة، ونبل وخسة، فيدون القبيح والجميل في صفحة واحدة من أجل المقابلة والموازنة. إنه الكتاب الملحمي الذي يماشي حرباً استمرت عشر سنوات، ويقف عند الخطوط البيانية للإقدام والإحجام، والهزائم والانتصارات، والأمانة والخيانة، والقوة والضعف؛ لأن الحرب في مآلها الأخير موت، والجميع يخشون الموت حتى الأبطال، لذلك يتهرب (أوليس) أو أوديسيوس من الحرب مع أنه كان من بين الذين تعهدوا بحماية (هيلين) الجميلة قبل أن تخطف من إسبارطة إلى (طروادة) والعمل على استعادتها، ويدعي الجنون، ويمضي إلى شؤون الزراعة والفلاحة، فيضعُ رفاقُه أمامه، أمام الثور والمحراث، ابنه تيلماخوس ليروا، امتحاناً، إن كان مجنوناً أم لا، وحين يقترب الثور والمحراث من ابنه، يحيّدهما (أوليس) بعيداً عنه، فيسقط في امتحان إدعاء الجنون، ويؤخذ إلى الحرب. (أخيل) بطل الحرب الذي تدور حوله أحداث (الإلياذة) من اللحظات الأولى وحتى مضي عشر سنوات، هو الآخر يتهرب من الحرب بوساطة أمه التي وعت ما قالته العرافة لها، من أنها أمام خيارين لرسم مسار حياة ابنها (أخيل)، إما أن تقبل به ابناً صاحب مجد، يموت في ميعة الصبا، وإما أن تقبل به ابناً بلا مجد ويعيش طويلاً، فتختار الأم الحياة الطويلة لابنها فتهرّبه إلى أحد القصور، وتلبسه ثياب نساء ليكون في زي امرأة بين رهط من النساء بعدما دقت الأجراس مناداة للجميع للالتحاق بالحرب الطروادية، لكن (أوليس) رفيقه يبحث عنه لأنه يعرف أن إسبارطة لن تخوض الحرب من دونه، فيتقمص، متنكراً، دور بائع جوّال، يحمل كيس بضاعته على ظهره وينادي عليها، وكلها بضاعة تخص النساء، وحين تناديه نساء القصر يدخل، ويفرغ ما في الكيس أمام أنظارهن، ولم تكن البضاعة سوى أمشاط، وأقراط، وشرائط حرير، ومساحيق تجميل، ومناديل..، ولكن وضع بينها خنجراً، وراح يراقب الأيدي إلى أين تمتد، وأي البضاعة تنتقي، وإذ بيد تلتقط أول ما تلتقط الخنجر،  فعرف أن صاحب اليد هو (أخيل) فيأخذه، ويطلب منه أن ينزع ثياب النساء، ويلتحق به من أجل خوض الحرب. طبعاً بكاء الأم، حين عرفت ما حدث، كان طافحاً لأنها كانت تعلم أن ابنها سيموت في الحرب، ويموت (أخيل) فعلاً في نهاية الحرب شاباً كما قالت العرافة، وهي هنا تمثل دور (الأنانكي) أي القدر.

ولأن الحرب هي الحرب بكل مشتقاتها الكريهة، بل إن اسمها هو الكريهة، فقد كانت المآلات والخلاصات هي مجمل كتاب (الإلياذة) الغني المدهش الذي خرج به الإغريق من هذه الحرب، هذا الكتاب الذي كان يُحكى ليل نهار في اجتماعات الناس طوال الأزمنة التي تلت الحرب جيلاً بعد جيل لأخذ العبرة، والتزود بالإيمان اليقيني أن الإنسان هو أثمن ما في الوجود، وهو زينة الوجود.

Hasanhamid55@yahoo.com